akdak

المقالات

القسم الولائي

زيارة الإمام الحسين (ع) بين المعطيات التاريخية والمضامين الروائية

822

السيد رضا علوي

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]

صدق الله العلي العظيم

في حديثنا حول زيارة الحسين  ، نتحدّث عن محاور ثلاثة:

المحور الأول: تحليل ماهية زيارة الحسين .

القرآن الكريم ذكر أن الوجود على نوعين: وجود غطائي ووجود وجهي، الوجود الغطائي هو عبارة عن عالم المادة، من يعيش في عالم المادة يعيش غطاء يحجب عنه رؤية العوالم الأخرى، يمنعه اكتشاف العوالم الأخرى، والقرآن الكريم يشير إلى هذا الوجود الغطائي الذي هو عبارة عن عالم المادة عندما يقول﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]، لأنك كنت تعيش عالم المادة كنت تعيش غطاء سميكًا يحجب عنك اكتشاف العوالم الأخرى. الوجود الآخر هو الوجود الوجهي الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بقوله﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26 - 27]، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115]، وجه الله هو عبارة عن الحقيقة الأمرية التي تمثل آيات الله، إبداع الله، قدرات الله، هذه الحقيقة الأمرية التي تمثل الإبداع الإلهي لا يكتشفها إلا المتقون، غير المتقين يعيش الوجود الغطائي، أما المتقون الذين بلغوا أعلى درجات التقوى فينكشف لهم وجه الله، تنكشف لهم الحقيقة الأمرية التي تمثّل قدرة الله وآيات الله، لذلك يقول القرآن الكريم﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 - 3]، هذا الرزق ليس ماديًا بل هو أمر روحي، وهو عبارة عن اتصال هذه النفس بذلك العالم الذي لا يكتشفه غير المتقي، وجه الله هو العالم الآخر، وجه الله هو الذي تقول عنه الآية المباركة﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]، نحن ننظر للعالم الآخر، عالم القدرة الإلهية، عالم العطاء الإلهي، لا ننظر إلى هذا العالم الدنيوي.

إذن بما أن هناك وجودًا غطائيًا نحن نعيش فيه لأننا نعيش عالم المادة، وهناك وجود وجهي هو عبارة عن وجه الله تبارك وتعالى، من هنا يتبين لنا حقيقة الزيارة، زيارة الحسين، زيارة الرسول، زيارة الإمام المعصوم، هذه الزيارة أيضًا لها وجهان وعنصران: عنصر حسي، وهو الحضور عند القبر، كما يراه الكثير من الناس، أنه واقف أمام قبر لا أكثر من ذلك، ولكن للزيارة عنصرًا آخرًا، للزيارة شأن آخر، مقام آخر، هو جوهر الزيارة، هو حقيقة الزيارة، وليس مجرد المثول الحسي أمام قبر المعصوم  ، ذلك العنصر الآخر له مرتبتان: المرتبة الأولى: الدخول في حضرة القدس، قبر الحسين حضرة من حضرات القدس، قبر الحسين   المعبّر عنه بمنطقة حائر حضرة من حضرات القدس الأعلى المحفوفة بالملائكة من كل مكان، ليفهم الزائر أنه أين داخل، ليس ماثلًا أمام قبر وأمام شباك، بل هو في حضرة من حضرات القدس المملوءة بالملائكة.

هذه الحضرة تشير إليها الرواية الشريفة عندما يرد عن الإمام الصادق  : ”وكّل بالحسين   سبعون ألف ملك شعثًا غبرًا يصلون عليه منذ يوم قتل إلى ما شاء الله ويدعون لزوّاره“، ولذلك الدخول له آداب والوداع له آداب والوقوف أمام القبر له آداب، لأنك في حضرة قدسية محفوفة بملائكة الرحمن، لكل وقفة فيها مراسم معينة، آداب معينة، هذه المرتبة الأولى للزيارة.

المرتبة الثانية: الرؤية الملكوتية لنور الحسين، أنت أمام الحسين، ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]، أنت أمام الحسين وهو شاخص، وهو ينظر إليك، وهو يرمقك، وهو يراقبك، عندما تعيش الرؤية الملكوتية للحسين نفسه فهذه هي حقيقة الزيارة، الحسين وجه الله، أنت أمام وجه الله، الحسين الوجه الذي تتمثل فيه عظمة الله وتتجلى فيه عظمة الله، أنت أمام وجه الله، أنت تقرأ في زيارة النصف من شعبان: ”أشهد أنك نور الله الذي لم يطفأ ولا يطفأ أبدًا، وأنك وجه الله الذي لم يهلك ولا يهلك أبدًا“، كل إمام فهو وجهٌ لله، ولذلك أنت في دعاء الندبة تقول: ”أين وجه الله الذي إليه يتوجه الأولياء“.

لذلك نحن عندما نقرأ روايات زيارة الحسين نجد الروايات بلسانين: لسان زر قبر الحسين، ولسان زر الحسين، فرق بين زيارة قبر الحسين وبين زيارة الحسين، صنف من الروايات يقول: زر قبر الحسين، يعني احصل على المرتبة الأولى، وأنك تدخل حضرة من حضرات القدس المحفوفة بالملائكة، هذه تعبر عنها الروايات بزيارة قبر الحسين، مثلًا: عن محمد بن مسلم عن الإمام الصادق  : ”مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين، فإن إتيانه مفترضٌ على كل مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من الله عزّ وجلّ“، والصنف الثاني من الروايات يعبّر بزيارة الحسين، ففي رواية علي بن ميمون الصائغ: ”يا علي، زر الحسين ولا تدعه. قلت: ما لمن زاره من الثواب؟ قال: من أتاه ماشيًا كتب الله له بكل خطوة حسنة ومحا عنه سيئة ورفع له درجة، ومن أتى الحسين عارفًا بحقه كتبه الله عز وجل في أعلى عليين“، هذه هي حقيقة زيارة الحسين  ، ليست الزيارة مجرد مظهر حسّي، أن أقف أمام شبّاك لأقول بعض الكلمات، إنما الزيارة لقاء وجه الله، إنما الزيارة مثول في حضرة قدسية تغمرها ملائكة الله تبارك وتعالى.

المحور الثاني: فلسفة الاهتمام الروائي بزيارة الحسين .

عندما نقرأ الروايات الشريفة، نجد أن هناك اهتمامًا كبيرًا بزيارة الحسين ما حصل لزيارة أخرى، أورد المحدّثون أكثر من 25 زيارة للحسين، لا يوجد لإمام آخر هذا العدد من الزيارات في أيام السنة، الروايات التي تقرن زيارة الحسين بالحج المستحب، بالعمرة المستحبة، بل تفضّله على الحج المستحب والعمرة المستحب، ففي رواية بشير الدهّان: ”من أتاه يوم عرفة عارفًا بحقه كتب الله له ألف حجّة وألف عمرة متقبلات مبرورات... ثم تسعى فلك بكل قدم رفعتها أو وضعتها كثواب المتشحط بدمه في سبيل الله“، لماذا هذا الاهتمام كله؟ ما هي خصوصية الحسين؟ لماذا الحسين بالذات يحظى بهذا الاهتمام الكبير في تراث أهل البيت؟ لماذا هذه الروايات الحاشدة في زيارة الحسين  ؟ لماذا هذا الاهتمام دون غيره من الأئمة الطاهرين المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين؟

من خلال هذه الروايات نكتشف أن لزيارة الحسين علاقة وثيقة بإحياء الدين، لو لم يكن لهذه الزيارة علاقة وثيقة بإحياء الدين لما كرّست الروايات الكثيرة الاهتمام البليغ بالحثّ على زيارة الحسين بكل لون وبكل شكل وبكل صورة، ما هي المعالم التي تتجلى لنا في زيارة قبر الحسين لنكتشف عظمة هذه الزيارة؟

المعلم الأول: المعلم الحركي.

أنت عندما تزور الحسين فأنت تشارك في معركة كربلاء، نفس زيارة الحسين هي مشاركة في كربلاء، نفس خطواتك وأنت تزور الحسين يعني أنت تشارك في هذه المعركة، تشارك في هذه الرسالة، تشارك في هذه المواجهة والثورة التي خطّها الحسين بن علي  ، الزيارة مشاركة، الزيارة اشتراك في نهضة الحسين وفي حركة الحسين نفسها، فإن من أهمّ بنود ثورة الحسين رفع رايته، وهناك من رفع راية الحسين بدمه، وهناك من رفع راية الحسين بماله، وهناك من رفع راية الحسين بصوته، وهناك من رفع راية الحسين بأن أتاه ماشيًا على قدميه، كل ذلك مشاركة في نهضة الحسين  .

لذلك أشارت الروايات إلى هذه النقطة، عندما يقول الصادق  : ”من زار الحسين يوم عاشوراء كان كمن تشحط بدمه بين يديه“، وورد عنه  : ”من زار الحسين يوم عاشوراء وبات عنده كان كمن استشهد بين يديه“، نفس الزيارة هي مشاركة في هذه المعركة، معركة الحق أمام الباطل، معركة الدين أمام الباطل، أنت بزيارتك تساهم في امتداد كربلاء وفي ارتباط كربلاء من جيل إلى جيل آخر.

المعلم الثاني: المعلم الروحي.

أنت عندما تقرأ هذا الشعر، الشيخ صالح الكواز يقول:

وله   تجلى   الله  جلّ  جلاله
وهناك  خرّ وكلّ عضو قد غدا
  في طور وادي الطف لا سيناء
منه   الكليم   مكلّم  الأحشاء

هذا ليس مجرد شعر وأدب، بل يتكلم عن مادة حقيقية وردت في الروايات الشريفة في حق الحسين بن علي  ، كيف يتجلى الله لعباده؟ التجلي الإلهي ثلاثة أنواع، أشارت إليها الآية المباركة﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51]، تجلي الله لعباده بثلاثة طرق: الأول التجلي الحسّي، أن يبدع آية من آياته فيراها الناس، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]، هذا تجلٍ حسّي، التجلي الثاني التجلي الملائكي، أن ينكشف بصرك وتتضح لبصيرتك كتائب الملائكة، إذا شاهدت كتائب الملائكة فهذا قسم آخر من التجلي الإلهي، وهو التجلي الملائكي ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾، أما التجلي الأعلى فهو أن يغمر المخلوق نور الله تبارك وتعالى، أن يغمر قلبه نور الله تبارك وتعالى، ”بك عرفتك وأنت دللتني عليك“، لم تتجل بتجل حسي ولا بتجل ملائكي، وإنما غمرت قلبي وجوانحي بنورك، هذا أعظم أنواع التجلي. أنت تقرأ في الدعاء: ”اللهم إني أسألك بالتجلي الأعظم“، أعظم أنواع التجلي تجلي النور الإلهي، ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 35]، التجلي الإلهي حصل للحسين يوم عاشوراء.

وله   تجلى   الله  جلّ  جلاله   في طور وادي الطف لا سيناء

فقال: ”اللهم رضا بقضائك وتسليمًا لأمرك يا غياث المستغيثين“، هذا التجلي الإلهي جعل كربلاء الأرض المباركة، وجعل يوم عاشوراء اليوم الشريف، وجعل أنفاس الحسين الأنفاس التي تغرس البركة في كل زمن وفي كل مكان، هذا التجلي الإلهي إذا تريد أن تحصل عليه فزر الحسين زيارة حقيقية، من زار الحسين زيارة حقيقية حصل على درجة من درجات هذا التجلي الإلهي، حصل على رتبة من رتب هذا التجلي الإلهي، عندما يقول الرضا  : ”من زار قبر أبي عبد الله الحسين بشط الفرات كان كمن زار الله في عرشه“، ما هو معنى الرواية؟ ربما يقول شخص: معناه ثواب، كما أن من يذهب إلى بيت الله الحرام، بيت الله الحرام بيت الله، من زار البيت الحرام زار الله في بيته، فله ثواب زيارة بيت الله، كذلك الله من زار الله في عرشه كمن زار الله في عرشه، يعني له ثواب جزيل، الرواية تتحدث عن ثواب.

لكن للرواية معنى آخر، تشير إلى هذا التجلي الروحي، من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه، من زار الله في عرشه يحصل على قرب إلهي لا يحظى به أحد، من زار الله في عرشه يتجلى له النور الإلهي الذي لا يتجلى لأحد، من زار قبر الحسين حصل على درجة من درجات التجلي الإلهي كما يحصل على ذلك التجلي من وطأ العرش ومن زار الله في عرشه.

المعلم الثالث: المعلم الإعلامي.

ورد عن الرسول محمد  : ”إنّ لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا“، السيد البروجردي «قدس سره» أحد مراجع الطائفة الإمامية يقول: لو بلغ اهتمام الشيعة بيوم الغدير نصف اهتمامهم بيوم عاشوراء لأصبح الغدير واقعًا لا يمكن تجاوزه، الدور الإعلامي مهم، احتفاء الشيعة بعاشوراء إصرارًا، ثباتًا، تحديًا، جعل عاشوراء واقعًا لا يمكن تجاوزه، يضطر المخالف لك أن يقول: أنا أعترف بعاشوراء، لكن لا تفعل كذا ولا تفعل كذا، لا يمكن أن يتجاوزه، واقع لا يمكن تجاوزه، لو اهتم الإمامية بيوم الغدير نصف اهتمامهم بيوم عاشوراء لأصبح الغدير واقعًا لا يمكن تجاوزه.

الدور الإعلامي دورٌ مهمٌّ في إثبات الحقائق التاريخية، الذي جعل الحسين واقعًا هو زيارة الحسين، إصرار الشيعة على زيارة الحسين  ، زيارة الحسين منارة إعلامية تظهر مظلوميته، حقانية مبادئه، عظمة قيمه التي نادى بها، ولذلك في معتبرة معاوية بن وهب عن الإمام الصادق  : ”دخلت على أبي عبد الله الصادق وهو يناجي ربه في مصلّاه... قال: اللهم اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر الحسين، الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم، رغبةً في برّنا، وإجابةً منهم لأمرنا، وسرورًا أدخلوه على نبيّك، وغيظًا أدخلوه على عدوّنا. اللهم إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافًا منهم على من خالفنا... فارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا“، لاحظوا هذه العبارات، تتحدث عن الدور الإعلامي لزيارة الحسين، لماذا زيارة الحسين تغيظ الأعداء؟

لأن لها دورًا إعلاميًا في إظهار مظلومية الحسين، لو لم يكن لزيارة الحسين هذا الصدى الإعلامي لما اغتاظ الأعداء منها، لماذا يغتاظون؟! غيظ الأعداء لا اليوم، بل منذ يوم الحسين، كانت زيارة الحسين تغيظ الأعداء، لأن لها دورًا إعلاميًا لا يتأتى في زيارة قبر أي إمام آخر، لماذا هذا الاهتمام البليغ بزيارة قبر الحسين من قبل الأئمة دون قبر غيره من الأئمة؟ لماذا هذا التفضيل لزيارة الحسين على الحج المستحب؟ لأن الدور الإعلامي لزيارة الحسين الذي يبرز مظلومية أهل البيت وحقانية مبادئهم وعظمة قيمهم لا يتأتى في مظهر إعلامي آخر أبدًا، ولذلك زيارة الحسين تغيظ الأعداء دون زيارة أي مكان آخر، تغيظ الأعداء لما لها من الصدى الإعلامي المؤثر. يقول دعبل الخزاعي:

زر   خير   قبر   بالعراق  يزار
لم  لا أزورك يا حسين لك الفدا
  واعصِ الحمار فمن نهاك حمارُ
قومي  ومن  عطفت عليه نزارُ

واليوم تحوّلت زيارة الأربعين إلى منصّة إعلامية عملاقة لا تضاهيها منصّة إعلامية لدى كل المسلمين، في جميع بلدانهم وأصقاعهم. ربما يقول قائل: لماذا هذه الملايين تزحف لقبر الحسين، والأموال الطائلة التي تُصرَف في هذه الزيارة؟! لماذا لا تدخر هذه الأموال لمشاريع أخرى؟! لماذا لا يكتفى بأعداد ميسورة؟! المهم أن تصل مظلومية الحسين إلى العالم، وقد وصلت، فلا حاجة لهذه الأعداد الضخمة من الملايين والأعداد الضخمة من الأموال، الهدف أن تصل مظلومية الحسين وقد وصلت، فلماذا كل هذا الإصرار؟!

هذا المهرجان المليوني لزيارة الحسين   ضروريٌ جدًا، هذا المهرجان المليوني له عدة أبعاد: البعد الاجتماعي، المهرجان المليوني لقاء بين شعوب مختلفة ولغات مختلفة وألوان مختلفة، يتدارسون قضاياهم ويتواصلون ويتفقد بعضهم البعض الآخر في ظلال الحسين  ، هذا البعد الاجتماعي لا يتأتى إلا بهذه الزيارة المليونية.

البعد القيمي: زيارة الأربعين نهرٌ من القيم، كرم، إيثار، تواضع، معاملة حسنة، تواصل إنساني ولائي لا نظير له، تتجلى خلال هذه الزيارة المليونية عظمة القيم التي ربّى أهل البيت شيعتهم عليها، كما ورد عن الإمام الصادق  : ”إن الرجل منكم إذا صدق في حديثه وورع في دينه وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، وقيل هذا أدب جعفر، فيسرّني ذلك“.

البعد العقائدي: عندما تعي الأجيال، أبناؤنا وأبناء أبنائنا على هذه الزيارة المليونية فإن هذه الزيارة المليونية تضع بصماتها على الأجيال، وتربيهم على الارتباط بالحسين  ، وتقوّي هذه الروابط الروحية بالحسين  ، وهذا البعد العقائدي لن يتحقق بصورة أخرى.

البعد الإعلامي: نفس ضخامة العدد هي منصة إعلامية في حدّ ذاتها، حتى لو الناس خرجت ساكتة، حتى لو أن الناس زحفت للحسين صامتة لا تنطق بحرف واحد، إلا أن ضخامة العدد في حد ذاتها هي منصة إعلامية تظهر عظمة الحسين وترفع راية الحسين  .

المعلم الرابع: المعلم العقائدي.

ليس لك أن تزور الحسين بكل لفظ تريده، لا، ورد في الروايات: زيارة الحسين بالمأثور، أن تقرأ الألفاظ الواردة عن المعصومين، زيارة الحسين بالمأثور، لا أن تنشئ الزيارة من عقلك، والله أنا أعرف الحسين وأعرف مبادئه فأستطيع أن أنشئ الزيارة! لا، زر الحسين بالمأثور، فإن الكلمات المعصومية الواردة عنهم حملت مضامين عقائدية لا توجد في لفظ آخر أو مقطع آخر، لاحظوا هذه الروايات: عن الصادق   يقول للمفضل: ”إذا أتيت قبر الحسين   فقف بالباب وقل هذه الكلمات، فإن لك بكل كلمة كفلًا من رحمة الله“، وقال لعلقمة في زيارة عاشوراء: ”تعاهد هذه الزيارة، وادعُ بهذا الدعاء، وزر به، فإني ضامنٌ لكل من زار بهذه الزيارة ودعا بهذا الدعاء من قرب أو بعد أن زيارته مقبولة، وسعيه مشكور، وسلامه واصل غير محجوب“، ما هي المضامين العقائدية التي تتجلى لنا في ألفاظ زيارة الحسين  ؟

العبد التوحيدي، أنت بمجرد أن تقف على الحرم الشريف ماذا تقول؟ تبدأ بالحسين أم بالله؟ بالله، ”الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق“، تبدأ بالبعد التوحيدي، بتعظيم الله، ثم تدخل في البعد النبوي، تمجيد النبي   بالرسالة، ”السلام على رسول الله“، ثم تدخل في البعد الولائي الإمامي، لاحظوا زيارة الأربعين نفسها التي قرأناها اليوم كم من المضامين العقائدية التي تشتمل عليها هذه الزيارة الشريفة.

المضمون الأول: مقام الإمامة، عندما يقول: ”أكرمته بالشهادة، وحبوته بالسعادة، واجتبيه بطيب الولادة، وجعلته سيّدًا من السادة، وقائدًا من القادة، وذائدًا من الذادة، وأعطيته مواريث الأنبياء، وجعلته حجة على خلقك من الأوصياء“، وتقول في زيارته في يوم العيدين: ”أشهد أنك صادق صدّيق صدقت فيما دعوت إليه“، وتقول أيضًا في زيارة يوم الأربعين: ”أشهد أنك كنت نورًا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك المدلهمات من ثيابها“.

المضمون الثاني: امتداد الإمامة، ”وأشهد أن الأئمة من ولدك كلمة التقوى وأعلام الهدى والعروة الوثقى والحجة على أهل الدنيا“.

المضمون الثالث: شرح الحركة الحسينية، نحن من أين نفهم ثورة الحسين؟ نحن من أين نفهم حركة الحسين؟ نحن من أين نعرف أهداف ثورة الحسين؟ من خلال الزيارات الواردة عن الأئمة المعصومين، هي التي شرحت أهداف ثورة الحسين، عندما يقول في زيارة يوم الأربعين: ”وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة“، ويقول في زيارة العيدين: ”أشهد أنك طهر طاهر مطهر من طهر طاهر مطهر، طهرت وطهرت بك البلاد، وطهرت أرض أنت بها، وطهر حرمك، أشهد أنك قد أمرت بالقسط والعدل ودعوت إليهما، وأنت صادق صدّيق“، حركتك حركة عدالة، وتقول في زيارة العيدين: ”السلام عليك يا بطل المسلمين“، أنت حققت بطولة الإسلام من خلال موقفك الرافض لإذلال الدين، عندما قلت: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة“، ونقرأ في الزيارة: ”أشهد أنك قد أقمت بالصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وجاهدت في الله حق جهاده حتى أتاك اليقين“، حركة جهادية.

المضمون الرابع: الثبات على المبادئ، أنت عندما تقف على قبر الحسين تتعهد له بالثبات على المبادئ والقيم، ”أشهد أني بكم مؤمن وبإيابكم موقن بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلبي لقلبكم سلم، وأمري لأمركم متبع“، أنت تتعهد للحسين، لذلك كما عبّر سيدنا الخوئي قدس سره، يقول: ينقلب المشهود له شاهدًا، أنت تشهد لكن الحسين سوف يكون الشاهد عليك، تشهد له فيشهد عليك، ينقلب المشهود له شاهدًا، الحسين يشهد لك أنك تعهدت أمامه بالثبات على هذه المبادئ، بالثبات على هذه القيم، بالثبات على هذه الأركان التي هي أركان دينك وأركان مذهبك.

المحور الثالث: التسلسل التاريخي لزيارة الحسين .

بدأ التوجه لقبر الحسين منذ مقتله، بشكل فرادى وجماعات، مشيًا وركبانًا، وقد يتعرضون لأقسى أنواع الأذى والألم، فلم يثنهم عن الزيارة، لولا هؤلاء لما وصلتنا زيارة الحسين، لولا تلك التضحيات على ممر التاريخ لما وصلنا صوت الحسين  ، الإمام الصادق   يقول: ”بلغني أن قومًا يأتونه من نواحي الكوفة وناسًا من غيرهم ونساء يندبنه، فمن بين قارئ يقرأ أو قاص يقصّ أو نادب يندب“، نفس هذه الصور التي تراها الآن في الخطباء هي كانت عند قبر الحسين منذ أيام الإمام الصادق  ، ندبة، قصة، رثاء، نفس هذه الصور، نفس هذه الألوان كانت موجودة في أزمنة أهل البيت وبمرأى وبمسمع من أهل البيت، أمضوها وأقرّوها، ”فمن بين قارئ يقرأ أو قاص يقص ونادب يندب وقائل يقول المراثي، فقلت: نعم جعلت فداك، قد شهدت بعض ما تصف. فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدونا يطعن عليهم“، إلى اليوم العدو يطعن عليك، هو نفسه امتداد لذلك التاريخ، ”يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم، يهدّدونهم ويقبّحون ما يصنعون“.

وذكر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين ص395 أن أشدّ الخلفاء في محاربة زيارة الحسين: المتوكل العباسي، كان شديد الوطأة على آل أبي طالب، وكان من ذلك - تعبير أبي الفرج - أن كرب قبر الحسين وعفّى آثاره ووضع على سائر الطرق مسالح له، لا يجدون أحدًا زاره إلا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة، وأمر مناديًا ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين.

لكن شيعة الحسين أصرّوا على الزيارة ومواصلة الزيارة، وكان أغلبهم يخرج مشيًا بين النخيل، بين البساتين، حتى يصل إلى القبر الشريف، لذلك عندما نقرأ الروايات نجد 17 رواية أو أكثر تحثّ على المشي، هذه الروايات جاءت في ذلك الظرف، الظرف الذي كان الشيعة يخرجون فرادى، مشيًا، يتسللون إلى قبر الحسين  ، جاءت هذه الروايات، 17 رواية عن الباقر والصادق والرضا   تحثّ على المشي إلى زيارة الحسين   لئلا ينقطع هذا الطريق، لئلا يموت هذا الدرب، لئلا يتبخر هذا الشعاع، لذلك قال الصادق  : ”من أتى قبر الحسين ماشيًا كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة“، وما زال الشيعة يمشون إلى قبره إلى يومنا هذا، لم ينقطعوا، لم يبتعدوا، أصرّوا على إحياء الشعيرة، أصرّوا على مواصلة الدرب، مشيًا، إصرارًا، ثباتًا، تحديًا، لكل مظاهر المواجهة في سبيل أن يبقى صوت الحسين، وفي سبيل أن ترتفع راية الحسين، وفي سبيل أن يبقى الشيعة حسينيين على مدى السنين والأعوام، وفي سبيل أن تبقى زيارة الحسين غضة طرية تتجدد في فم كل شيعي وفي كل زمن وفي كل مكان.