المقالات
القسم الاجتماعي
لماذا يمكن لشعارات تمكين المرأة أن تؤدي إلى نتائج عكسية؟
جاهرت جنيفر سايمونز - الرئيسة التنفيذية لشركة دريس مَت لتأجير الملابس والحاصلة على منحة مؤسسة "غيرل بوس" لعام 2019 - بعدم اتفاقها مع مصطلح "الفتاة المديرة"
في عام 2014، جعلت سيدة الأعمال الأمريكية صوفيا أمورسو مصطلح "غيرل بوس" أو "الفتاة المديرة" على كل لسان، عندما استخدمته في النصف الأول من وسم دُشِنَ على موقع تويتر.
وقد رسخت أمورسو هذا المصطلح في الوعي العام، عندما اختارته عنوانا لسيرتها الذاتية، التي احتلت مرتبة متقدمة على قائمة مبيعات الكتب، قبل أن تتحول إلى مسلسل تليفزيوني في وقت لاحق.
وتناول العمل كيف بدأت هذه الشابة مسيرتها ببيع المنتجات المستعملة عبر موقع "إي باي" الإلكتروني، إلى أن أطلقت علامة تجارية للأزياء النسائية تحمل اسم "ناستي غال"، والتي جعلتها مليونيرة.
ورغم أن "غيرل بوس" مصطلح مُستعار من ألبوم غنائي أصدرته المغنية الأمريكية بيتي ديفيس عام 1975، فقد مثلّ -عند استخدامه من جانب أمورسو- تمردا أنثويا مُتحديا لأنماط سادت لبعض الوقت، من قبيل صيحات الموضة النسائية التي راجت في ثمانينيات القرن العشرين، مثل حشوات الكتف التي أُضيفت وقتذاك إلى الكِنزات وغيرها. فما الذي تمثله هذه الحشوات، إن لم تكن محاولة لإكساب النساء مظهرا ذكوريا بشكل أكبر؟
على أي حال، بدا وسم #girlboss بمثابة صيحة بالنسبة لجيل كامل من الشابات اللواتي ربما فكرن بفضله في خوض غمار العمل التجاري بأنفسهن. كما انطوى هذا الوسم - في نظرهن - على آمال وأحلام لا تعد ولا تحصى، وكذلك على طموحات عملية تصل إلى عنان السماء.
لكن اللغة تبقى دائما قابلة للتحول والتشكل، ولا يشكل مصطلح جديد مثل "السيدة المديرة" استثناءً من ذلك. فبعد ست سنوات من ذيوعه وانتشاره، بدا أنه تحول إلى مجرد أداة لغوية أخرى لاضطهاد للنساء، ليؤدي بذلك وظيفة مناقضة تماما لتلك التي دُشِنَ من أجلها، أي أن يشوه المرأة ويعاملها بترفع ينطوي على ازدراء، بدلا من أن يحتفي بها ويسمو بمكانتها. على الأقل، هذا ما يشير إليه قرار صدر مؤخرا عن الهيئة المسؤولة عن الالتزام بمعايير الإعلان في المملكة المتحدة.
ففي وقت سابق من الشهر الماضي، حظرت الهيئة - التي زُوِدَت مؤخرا بصلاحيات جديدة - إعلانا أُنْتِجَ لحساب منصة إلكترونية تحمل اسم (بيبول بير أور)، وتتولى الربط بين من يعملون بشكل مستقل والشركات التي قد تحتاج لخدماتهم.
فالإعلان - الذي انتشر بكثافة في مختلف أنحاء شبكة قطارات الأنفاق في العاصمة البريطانية لندن - كان يُظهر امرأة شابة صهباء الشعر، تنظر مبتسمة إلى أسفل باتجاه شيء ما لا يظهر في الصورة، وربما يكون الكمبيوتر المحمول الخاص بها.
لكن قد تكون وضعية هذه السيدة، مجرد تعبير رمزي بصري عن الخضوع الأنثوي، نظرا لأن الكلمات المرفقة بالصورة كانت تقول "لتكونيِ أنتِ المديرة، ولنهتم نحن بتحسين فرص ظهور موقعك الإلكتروني على محركات البحث المجانية".
عبارة مثل هذه تبدو بديهية، فهل بوسع أي فتاة شابة التعامل مع التكنولوجيا، بذات الكفاءة التي يتميز بها المتخصصون في ما يُعرف بـ "علم تحسين محركات البحث"، الذي يُعنى بزيادة فرص ظهور المواقع أو الصفحات الإلكترونية، في نتائج محركات البحث غير المدفوعة على شبكة الإنترنت.
ولم يكن من المفاجئ أن يثير الإعلان عاصفة من ردود الفعل الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي. فقد اقترحت أيما سيكستون - التي تعمل مذيعة وترأس كذلك مجلس إدارة وكالة تقدم خدمات مبتكرة في قطاع "معاملات الشركات" - صيغة بديلة للكلمات الواردة في الإعلان لتكون "لتكوني أنتِ الرئيسة التنفيذية، ولنهتم نحن بتحسين فرص ظهور موقعك الإلكتروني على محركات البحث المجانية".
فهل حُلت المشكلة إذا؟ على أي حال، بدا الإعلان في شكله الأصلي، وكأنه ينظر إلى النساء بترفع مشوب بالازدراء وبتمييز جنسي ضدهن كذلك، وهما اتهامان من بين سلسلة اتهامات، انهال بها مستخدمو تويتر على المنصة المُنتجة للإعلان.
وقد تبين أن الهيئة المعنية بإجازة الإعلانات في المملكة المتحدة اتفقت مع هذا الرأي، إذ قالت إن الإعلان "يرسخ بشكل دائم صورا نمطية ضارة، تنطوي على تمييز بين الجنسين"، نظرا لأن الصورة التي يقدمها لسيدة يُفترض أنها تدير شركة، تنطوي على النظر للمرأة بترفع مشوب بالازدراء.
وبالنسبة لمن يعلم بالمشكلة المتجذرة التي تعاني منها النساء مع صناعة التكنولوجيا وإحساسهن بأنهن أسهمن في رفعتها ثم أُقصين منها، سيكون هذا الإعلان للأسف الشديد متوائما مع هذا التصور.
من جهة أخرى، فإذا بدا محزنا لنا أن منصة إلكترونية مثل "بيبول بير أور"، وافقت على إنتاج إعلان على هذه الشاكلة في المقام الأول، فإن المشكلة الأكبر تتمثل في أن طريقة تعامل هذه المنصة مع الأزمة الناجمة عن خروجه إلى النور، فشلت في نزع فتيلها. فرغم أن "بيبول بير أور" أقرت -بالتزامن مع إصدارها اعتذارا نشرته على موقعها الإلكتروني- بأن الإعلان ربما بدا "مهينا بالنسبة للمرأة وينطوي على تمييز جنسي بحقها"، فإنها اكتفت بتعديله بشكل طفيف، لم يتجاوز حذف كلمة "الفتاة" من مصطلح "الفتاة المديرة" الذي كان مستخدما فيه.
ولم يرق هذا التعديل للكثيرات، من بينهن فرانكي كوتون -وهي سيدة أعمال ومقدمة مدونة صوتية تحمل اسم "نساء على القمة"- التي قالت خلال مقابلة أُجريت معها عبر الهاتف: "إن الاكتفاء بحذف هذه المفردة أمر مضحك، في ضوء أن هناك حاجة لإعادة النظر في الإعلان برمته. فلعل أكثر ما أدهشني بخصوص هذا الإعلان، هو أن أحدا لم يثر أي شكوك أو تساؤلات بشأنه، خلال عملية إقراره والموافقة عليه. ويعني ذلك إما عدم مشاركة أي نساء في هذه العملية، أو أنه لم يُفسح لهن المجال للتعبير عن وجهة نظرهن في هذا الشأن".
وتشير كوتون إلى أن ذلك، يجعل الأزمة تعود في الأساس، إلى وجود مشكلة في ضمان تمثيل الجنسين بشكل متكافئ، في أماكن العمل.
المفارقة أن مصطلح "الفتاة المديرة" -مثل سواه من المصطلحات الأخرى المماثلة- نُحِتَ في الأصل، لمواجهة هذه المشكلة تحديدا. فابتكار هذه المصطلحات، التي قد تبدو لنا الآن مصطنعة بشكل أخرق رغم ما تكتسي به من جاذبية، كان يستهدف تعزيز قضية تمكين المرأة ومنحها مزيدا من الصلاحيات والسلطات.
لكن للأسف، أدت مثل هذه العبارات، إلى تقويض الإنجازات النسوية نفسها، التي نُحِتَت لدعمها وتشجيعها. فبرغم أنها ظهرت نتيجة وجود حاجة لصياغة مفردات لغوية تحتفي بدور المرأة ومنجزاتها وتميز بينها وبين ما يفعله أقرانها الرجال في مجال العمل، فإن المشكلة أن ابتكارها يفترض في الوقت نفسه ضمنا، وجود هيمنة ذكورية على تلك المجالات.
وفي هذا السياق، تقول ماغدالينا زافيشا، وهي مُحاضرة في علم نفس المستهلك والنوع الاجتماعي في جامعة أنغليا روسكين البريطانية: "من العسير للغاية أن يهرب المرء من الصور النمطية المتجذرة المتعلقة بالنوع الاجتماعي. فضلا عن ذلك، فقد أتت الكثير من المحاولات اللغوية المماثلة (لنحت مصطلح الفتاة المديرة) بنتائج عكسية. فبينما يجذب مثل هذا المصطلح الانتباه على الفور للنساء، فإنه يحط في الوقت نفسه من قدرهن كمديرات. فهل سمع أحدكم من قبل مثلا عن مصطلح المديرون الذكور؟"
وفي كتابها الصادر حديثا "الإعلان والنوع الاجتماعي والمجتمع: رؤية من منظور علم النفس"، أشارت زافيشا إلى أن وسائل الإعلام المرئية، تعج بنماذج على التحقير من دور المرأة، على نحو "لا نرى أن الرجال يتعرضون له". وتضيف هذه المُحاضرة الجامعية بالقول إن إعلانا مثل ذاك الذي أنتجته "بيبول بير أور"، يعزز ذلك عبر تدعيم الرؤية التقليدية للمرأة، على أنها تفتقر لـ"عقلية تكنولوجية متميزة".
وحتى بالنسبة لبعض الناشطات النسويات، تمثل مسألة التمكين في حد ذاتها أمرا إشكاليا، إذ توحي إثارتها بأن فئة النساء تحديدا، بحاجة إلى مساعدة خاصة. لكن ذلك لا ينفي حقيقة، أن النساء يعانين بشكل مزمن من عدم تمثيلهن بشكل متكافئ مع الرجال، في مجال الأنشطة والأعمال التجارية.
ويزداد الوضع سوءا، عندما يتعلق الأمر بنسبة من تشغل منهن مناصب قيادية في الشركات والمؤسسات. غير أن نحت مصطلح بعينه باللغة الإنجليزية مثل She-EO ، لتوضيح أن سيدة هي التي تتولى الرئاسة التنفيذية للشركة، وذلك لاستخدامه بدلا من مصطلح CEO الذي لا يشير إلى جنس بعينه، قد يفيد ضمنا بأن غالبية من يشغلون هذا المنصب، هم من الذكور.
لكن هل تعلم أن هذا هو الوضع فعلا، وأن للرجال الغلبة في هذا المضمار، وعلى نحو كاسح كذلك. ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى ما ورد في تقرير معهد تشارترد للأفراد والتنمية ومقره بريطانيا، من أن غالبية الرؤساء التنفيذيين لأكبر مئة شركة مُدرجة في البورصة في المملكة المتحدة، هم من الذكور لا الإناث.
وفي كثير من الأحيان، يصب الحديث عن تكافؤ الفرص -في واقع الأمر- في صالح الرجال. فالنساء يجدن أن القائمين على عمليات التوظيف أو اختيار أسماء المرشحين للترقي، قد ينظرون بشكل أكثر إيجابية إلى الخصال التي ترتبط تقليديا بالذكور، مقارنة بنظرتهم للخصال ذات الطابع النسوي.
وحتى عندما تُعدل النساء تصرفاتهن لتتلاءم مع تلك النظرة التقليدية، يُنظر إليهن بشكل سلبي. ومن هذا المنطلق، فقد يشكل مصطلح "الفتاة المديرة" - بكل ما قد يتسم به من طابع أخرق وما يشوبه من عيوب - محاولة لاقتطاع مساحة، يمكن للمرأة أن تتولى فيها مناصب قيادية، دون أن تضطر لتقليد الرجال.
وربما يتعين لنا هنا الاستعانة برأي جنيفر سايمونز (23 عاما)، الحاصلة على منحة مؤسسة "غيرل بوس" لعام 2019، وصاحبة ومُؤسِسة متجر "دريس مَت" لتأجير الملابس بين طلاب الجامعات وبعضهم البعض في الولايات المتحدة، والرئيسة التنفيذية له كذلك.
فقد قالت هذه الفتاة إنها لا تشير لنفسها -خلال عملها اليومي- على أنها "الفتاة المديرة"، لكنها أضافت: "في أي عالم مثالي، يمكنك أن تكتفي باستخدام مفردة مدير أو Boss (التي لا تشير إلى جنس بعينه). لكننا لا نعيش في مثل هذا العالم، ولذا فإذا كانت عبارة مثل Girl Boss هي التي يتعين علينا استخدامها للوصول إلى هذه المراتب القيادية، فلن أشعر بغضاضة حيالها".
وتؤكد سايمونز أن السيرة الذاتية لصوفيا أمورسو، كانت ملهمة بالنسبة لها، بل وتشك في أنها كان سيصبح بمقدورها التخلي عن طموحها في أن تعمل طبيبة وأن تختار بدلا من ذلك خوض غمار مجال ريادة الأعمال، لولا النموذج الذي قدمته أمورسو.
في النهاية يمكن القول إن السياق -كما كان دائما- هو كل شيء. فمع أن الإعلان الذي أنتجته "بيبول بير أور" ليس الأكثر إساءة للمرأة على أي حال إذا قورن بما تضمنته اللوحات الإعلانية التي ظهرت منذ مطلع القرن الجاري وتستخدم الاستمالات الجنسية، فإن مشكلته تتمثل في أنه "اختطف" مصطلحا يرمي -على كل عيوبه- لترسيخ فكرة المساواة بين الجنسين، وهو ما جعل ذلك الإعلان يبدو مُقوضا لتلك الفكرة في نظر البعض.
لكن على الجانب الآخر، فمع أن الحملة التي تعرض لها هذا الإعلان وتَبِعاتها، سلطت الضوء بشكل غير مقصود على عيوب مصطلح مثل Girl Boss، فإنها أظهرت في الوقت نفسه السبب في أنه لا تزال هناك حاجة لهذا المصطلح، أو لبدائل أخرى له، أكثر دقة وإحكاما.
اكثر قراءة