المقالات
القسم الولائي
خديجة الكبرى: الزوجة التي أقامت الإسلام
في أي حديث عن تجربة حياة زوجية بالضرورة يُسلط الضوء على ما يتركه هذا الزواج من آثار على الأسرة، والأولاد، فان كانت الآثار ايجابية، نجد الرجل يتقدم ويتطور في حياته، وتكون المرأة في اطارها الوظيفي الصحيح؛ تضخ الحنان والعاطفة والدفء لتبعث الحياة في كيان هذه الأسرة، ومن ثمّ؛ السعادة والهناء، أما اذا كان العكس فالنتائج مناقضة قطعاً.
ونحن في أيام ذكرى وفاة أم المؤمنين؛ خديجة بنت خويلد، زوجة رسول الله، وأم الصديقة الزهراء، عليهما السلام، وربما لا يكون مناسباً تقديم حديث عن الزواج لموضوع عدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأنه "عام الحزن" عندما فقد في غضون أيام قلائل –كما في بعض التواريخ- عمّه و مسانده الأكبر؛ ابو طالب، و زوجته الوفيّة خديجة، بيد أن العبرة والعِظة من هذه المناسبة الأليمة نستوحيها من الحياة الزوجية لهذه السيدة العظيمة، وكيف أنها تأسست وقامت منذ لحظاتها الأولى على أسس من التقوى والفضيلة والرؤية البعيدة المدى التي لم تعهدها أية حياة زوجية في الجزيرة العربية اطلاقاً.
خديجة؛ تلك المرأة التي جمعت الشرف الرفيع في الحسب والنسب، مع الثراء، وهي في سن الاربعين، امرأة متكاملة في الاوصاف المثالية لا ينقصها إلا من يكون كفوءاً لها من هذه الاوصاف الظاهرية، وينقل التاريخ أنها رفضت كل عروض الزواج من خاطبين كبار في قريش، يماثلونها من الحسب والنسب والثراء، وربما لم يكونوا جميعاً سيئين رغم جاهلية المجتمع المكّي وما كانت تسوده من سلوكيات وأخلاق رذيلة وذميمة، مثل الزنا وأكل الربا وشرب الخمر، فضلاً عن عبادة الأصنام دون الله الواحد الأحد.
ولكن لخديجة رأي آخر، ورؤية غير موجودة في منهج المجتمع المكّي، فهي كانت تبحث عن القيم والطُهر والنبل، وهذا ما وجدته في شاب في العقد الثاني من عمره الغضّ، اجتمع لديه الفقر واليتم، رغم أنه يفوقها في حسبه ونسبه الشريف، فهي ربما حاكت في اختيارها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ما فعلته ابنة نبي الله شعيب، عليه السلام، عندما أشارت على أبيها بأن {خير من استأجرت القويّ الأمين}، وحسب الروايات؛ فان قوة نبي الله موسى، عليه السلام، ما رأته من شدة بأسه عندما انتزع دلو الماء من جموع المتزاحمين على البئر، أما الأمانة فقد لاحظته من عدم سيره خلفها بعد هبوب رياح لصقت ثيابها بجسدها، فقال لها موسى: أسير أمامك وأنت دلني على بيتكم.
عن صفات اخلاقية سامية كهذه كانت خديجة تبحث فيمن يخطبها من الرجال، ولم تجد مطلقاً، لذا تحركت هي بنفسها فاكتشفتها في شخصية الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، الذي كان يلقب بين المجتمع المكّي بانه "الصادق الأمين".
وعند الحديث عن الطريقة التي تعرفت فيه خديجة على النبي، لنا وقفة تأمل سريعة مع التاريخ، حيث يوحي المؤرخون بأن رحلة النبي التجارية الى الشام بقافلة خديجة، وتحقيق أرباح مذهلة تفوق ما حققته سائر القوافل التجارية لأثرياء مكة، كان في مقدمة الاسباب التي دفعت بخديجة لأن تسلط الضوء على النبي كونه صاحب شخصية ناجحة "تجارياً"، او انه رجل أعمال متفوق حسب المصطلح الدارج اليم، بينما لم يكن الأمر كذلك، فخديجة لم تكن بحاجة الى المال لتفرح بما أتى به النبي لدى عودته الى مكة، إنما وجدت فيه ما أثار فضول الاحبار والرهبان في الجزيرة العربية ممن وجدوا علائم النبوة الموجودة في كتبهم، في شخص هذا الشاب اليافع، فضلاً عما عرف عنه خلقه الرفيع وصفاته الحميدة، وشخصيته الاجتماعية المحببة للنفوس.
هذا النوع من التقييم، ثم تأسيس أسرة وحياة زوجية عليه، يمثل تحدٍ كبير لأي امرأة بوزن خديجة، بل وأي امرأة تتطلع دائماً لحياة آمنة مستقرة، ولكنها حسمت أمرها، ورسمت طريقها بالبصيرة الإلهية، فالفترة ما بين زواجها من النبي الأكرم، وحتى بعثته من السماء نبياً خاتماً للعالمين، هي؛ خمسة عشر سنة، كانت كافية لتنهل من معين التوحيد والقيم السماوية، وهذا أهلها لتكون الدعامة التي قام عليها الإسلام منذ اليوم الاول لانطلاقته في تلك الظروف العصيبة والاستثنائية، فكانت هذه الزوجة الصالحة أول من يؤمن بالإسلام، وتقف على جانب زوجها النبي الأكرم، وأول من يبارك له بالنبوة، وأول امرأة تقف خلفه للصلاة الى جانب أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام.
هذا ما كانت ترجوه خديجة في حياتها، فهي لم تكن لتنظر الى أموالها من ذهب وفضة وممتلكات، لتوفر من خلالها حياة الهناء والراحة، كما هو حال سائر النساء، بل والرجال ايضاً، إنما تجاوزت كل ذلك وجعلته وسيلة تتقرب بها الى الله –تعالى- بانفاقه بين يدي زوجها في طريق نشر رسالة السماء، والإسهام في عملية إخراج الناس من الظلمات الى النور.
إن القرار الشجاع لخديجة بتوظيف ثروتها وجاهها لخدمة الرسالة، كان له ثمناً باهضاً، حيث تعرضت للمقاطعة والضغوطات النفسية من المجتمع المكّي، فقد سعت بأموالها للتخفيف عن ضغوطات وتهديدات المشركين لمن كان يهتدي بنور الإسلام، فكان القرار العدواني والجائر من مشركي قريش بأن فرضوا الحصار الظالم على المسلمين في شعب أبي طالب، فتعرض المسلمون للمجاعة وخطر الموت.
حتى نساء قريش شاركن الرجال في مقاطعة خديجة وممارسة الضغوط النفسية عليها، فهجرنها ولم تتصل بها أحد، وقد ثبتن موقفاً لا انسانياً في التاريخ عندما امتنعن عن عيادة السيد خديجة وهي في حالة الولادة، وفي الايام الاخيرة من حملها على الصديقة الزهراء، كانت وحيدة في البيت، إلا من بعض النسوة اللاتي وفين بالصحبة.
دخل عليها رسول الله ذات مرة، فوجدها تتكلم ولا أحد في الدار، فسألها، فقالت: الجنين في بطني يحدثني ويؤنسني، فبشرها من خلال الأمين جبرائيل بأنها الصديقة الزهراء، ويالها من مواساة! وهي بعد لم تفتح عينيها على الحياة، تواسي أمها الوحيدة والمقطوعة من نساء قومها.
توفيت السيدة خديجة وسط ظروف غاية في القساوة بسبب المقاطعة الاقتصادية للمشركين في مكة، وايضاً؛ المقاطعة الاجتماعية، وخلفت جرحاً غائراً في نفس رسول الله، فبكى عليها بكاءً مراً، لانه فقد زوجة لم تتكرر ابداً، وهو ما أكده صراحة في حديث تناقلته المصادر عن إحدى صور الغيرة لعائشة تقول: "كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، فقد أبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، و رزقني الله منها أولاداً إذا حرمني أولاد النساء".
وأما عن عرفان الجميل ومكافأة الوفاء والتضحية، فكان أروع ما بدر من رسول الله، صلى الله عليه وآله، اذ كان يقتطع حصّة من طعام يوضع بين يديه، او قطعة لحم تهدى اليه، او أي شيء يصله، ويرسله الى تلكم النسوة اللاتي كنّ يواسين خديجة في وحدتها، عرفاناً منه لمواقفهن النبيلة، وفي الوقت نفسه إحياءً لذكرى خديجة في محيطه الاجتماعي.
وهكذا بقيت خديجة مضيئة في التاريخ رغم أيادي التحريف والتشويه، على أنها الزوجة الصالحة، والمضحية، والقدوة لكل زوجة تريد السعادة في الدارين، لها ولزوجها وللناس جميعاً.
اكثر قراءة