من هم بنو العبّاس
ساد ظلم الأُمويّين الناس
عامّة، وما اختصَّ بالأبرار، ولا بعترة المختار (صلى الله عليه
وآله) فمقتهم آخر الأمر أهل السوء كما أبغضهم أهل الصلاح، فقام
الباكيان باكٍ يبكي على دينه وباكٍ يبكي على دنياه، وصار الناس
تتطلّب المهرب من جورهم، وتريد الخلاص من حكمهم، كانت أُميّة تهدّد
بلاد الإسلام كافّة بأهل الشام،
لأن الشام جندهم
الطيّع الذي لا يحيد عن رأيهم، ولا يتخلّف عن أمرهم،
وبأهل الشام واجتماعهم
ملَكَ معاوية مصر والعراق والحجاز،
مع ما في الحجاز والعراق من
رجال الرأي والشجاعة الذين كان افتراقهم مطمعاً للشام باجتماعهم،
وما ساق ابن زياد الكوفة على
ابن الرسول (صلى الله عليه وآله) بغير الوعيد
بأجناد دمشق والوعد
بالمال، وما تغلّب عبد
الملك على العراقين والحرمين واستلبها من آل الزبير إلا بتلك
الأجناد، كانت الشام لا
تعرف غير أُميّة للمُلك بل للخلافة، بل لكلّ دعوة وطاعة وما زالت
أُمية مهيمنة على البلاد الوسيعة.
حتى
إذا اختلف بنو
أُميّة بينهم
وصار بعضهم يقتل بعضاً
اختلف أهل الشام باختلافهم،
وافترقت كلمتهم لافتراق القادة الذين ضلّلوهم وأضلّوا
بهم.
ولمّا
اختلفت كلمة الأُمويّين اشرأبّت
الأعناق لسلطانهم، وطمعت النفوس في بلادهم، ولكن مَن الذي يجهر بتلك
الأماني والرعب من الشام آخذ
بالقلوب، وكيف ينسى الناس تلك القسوة والسطوة وجندهم
أهل الشام ولم
يطل العهد على حادثة
الطف التي
أظهر فيها الأُمويّون فنون
الإرهاب وضروب اللؤم والانتقام، ولا على واقعة الحرَّة التي أبانوا
فيها غرائب الخسّة والدعارة والهتك للحرمات والمحارم والسفك للدماء
البريئة، ولا على حصار البيت من يزيد مرّة، ومن عبد الملك أُخرى حتى
رمته المجانيق وأضرموا فيه النار فهدموه، ولا على قتل زيد
وصلبه وإحراقه، وقتل يحيى
وصلبه، والحوادث المثيرة التي أنزلوها بالناس، من دون أن يجدوا حرمة
لحريم ولا رادعاً عن محرم، فكأن النفوس والنفائس والأعراض والعروض
لم تكن إلا طعمةً لهم، ومنفذاً لشهواتهم، فكيف والحال هذه يجهر ابن
حرّة بعداء بني
أُميّة، أو يتظاهر بالكيد لدولتهم.
نعم
لم تأمل الناس من أحد أن ينتزع منهم التيجان، ويسلبهم السلطان
غير بني
هاشم، لأنهم أرباب ذلك العرش، سواء كانت الخلافة بالنصّ أو القربى
أو الفضيلة فصارت الناس تستنهضهم سرّاً، وتحثهم على الوثبة
همساً.
بيد
أن الصادق
(عليه السلام) لو تقدم لها لم يسبقه إليها أحد، لفضله وكثرة
شيعته، ولكنه كان يدافع من يستحثّه، ولا يجيب من
يستنهضه.
ولمّا
لم يجدوا عنده أملاً للنهوض عدلوا عنه إلى غيره، فتارةً يبايعون
محمّداً وفي طليعتهم أبوه وأخوه وبنو الحسن وبنو
العبّاس، وأُخرى يدعو أبو مسلم في خراسان للعبّاسيّين،
وأبو سلمة الخلال بالكوفة للرضا
من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) وطوراً يثب ابن جعفر في كوفان
فلا يتمّ له أمر، وتارةً يظهر في فارس فلا يستقيم له شأن، فيهرب إلى
أبي مسلم في خراسان،
فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، لأنّ حتفه كان على يديه، ولم تمض
برهة طويلة على تلك الأعاصير الهائجة، والأجواء المضطربة، حتى
استقرَّ الأمر في بني
العبّاس.
تلك
الأقدار هي التي طوحت بالأمر حتى جعلته في أحضان السفّاح والمنصور،
وإلا فمَن الذي كان يحتسب أن الأخوين اللذين كانا يتنقّلان في
الأحياء يرويان للناس فضائل أبي الحسن ذريعة للاستعطاف والاستجداء
واللذين بايعا ابن الحسن يوم اجتماعهم بالأبواء من دون تلكّؤ وأمل
بالمُلك واللذين كانا تحت راية ابن جعفر وفي جنده يوم ظهر في فارس
ينيلهما من وفره، هما اللذان يتواليان على دسّت الحكم، ويكونان
السالبين لعروش أُميّة، ومَن الذي كان يخال أن ابن جعفر فارس الوثبة
يكون قتيل داعيتهما أبي مسلم، وما هما إلا بعض جنده، ومَن الذي
كان يظنّ أن
ابن الحسن الذي أمّل نفسه وأمّلته الناس بالخلافة وبايعته
على الموت يصبح
وأخوه إبراهيم صريعين بسيف المنصور.
شاءت
الأقدار - ومن يغلب القدر - أن يثب على كرسيّ
الحكم بنو
العبّاس، وتصبح الدولة
الأُمويّة أثراً
بعد عين، وخبراً بعد حسّ، فلا أسف على من فات، ولا فرح بالآت، تذهب
أُمة فاجرة وتأتي دولة جائرة.
السَفَّاح
ارتقى السَفَّاح منصَّة الحكم فضحكت له الدنيا بعد تقطيب وأقبلت
عليه بعد إدبار، ولكن هل يسلم المرء - وإن أقبلت عليه الدنيا بأسرها
- من نوازل الهم؟ أصبح ابن
عبّاس بين
هميّن همّ تطهير البلاد من الأُمويّين لتخلص
له الأُمّة، وهمّ المنافسة على العرش من بني علي، العرش الذي لم
ترسخ أُسسه بعد، ولم تثبت قوائمه، وما أسرع ما يميد إذا عصفت أعاصير
الوثبات عليه، ولم يسترح بعد من همّه الأوَّل حتى أقلقه الثاني،
وكيف يأمن من العلويّين، وأبو
عبد اللّه الصادق
(عليه السلام) إمام مفترض الطاعة عند شطر من هذه الأُمّة، وعند
كثير من أجنادهم الذين قلبوا بهم عروش بني مروان،
وهل قتلوا أبا
سلمة الخلال إلا لأنهم أحسّوا منه أنه يريدها لبني علي، وأن البيعة
للسفّاح كانت بالغلبة عليه وإعجاله عليها.
وكيف
يأمن ألا ينافسه العلويّون ومحمّد
بن الحسن كانت
له البيعة يوم الأبواء، وهو الذي صفّق السفّاح والمنصور بيديهما على
يده، وهو الذي كان المؤهَّل للعرش الذي وثبوا عليه، وما زالت تلك
الأماني تخالج نفسه ولأيّ شيء اختفى يوم ظهر السفّاح؟ أليس الليث قد
يربض للوثبة؟
حاول ابن
عبّاس أن
يستريح من هذا الهمّ فأرسل خلف الصادق
(عليه السلام) إلى الحيرة ليوقع به وإن لم يظهر ما يتخوّفه على
سلطانهم، فلما وصلها ضيَّق عليه، ولكن لمّا لم يجد عنده هاتيك
المخاوف سرَّحه إلى المدينة راجعاً والهواجس
تساوره.
ثمّ
صار يتطلّب ابني عبد
اللّه بن الحسن، وهما مختفيان خوفاً من
بطشه وكلّما جدَّ في العثور عليهما جدّا في
الاختفاء.
ملك بني العباس
انقضى دور السفّاح القصير والصادق (عليه السلام) وادع في
المدينة وابنا الحسن خلف ستور الخفاء،
وما جاءت أيام المنصور إلا واشتدَّ على العلويّين، فما
ترك الصادق يقرُّ
في دار الهجرة بل صار يجلبه إليه مرَّة بعد أُخرى ويلاقيه بالإساءة
عند كلّ جيئة، ويهمّ بقتله في
كل مرَّة، وما زال معه على هذه الحال إلى أن قضى عليه
بالسمّ.
وأما
محمّد وإبراهيم فكان يفحص عنهما بكلّ ما أُوتي من حول وحيلة فكان
يعلن بالأمان لهما مرَّة، ويشتدّ على أبيهما وبني الحسن أُخرى، فلم
تنفعه هذه الوسائل للوصول إليهما، والعثور عليهما، ثم حمل بني الحسن
إلى العراق،
واستودعهم غياهب السجون، حتى قضى أكثرهم بأشنع قتلة وما
فتئَ أن فوجئ بوثبة محمّد بالمدينة والبصرة، وهذا ما كان يرقبه
ويتذرَّع بالوسائل لصدِّه، ويتخوَّف عُقباه، غير أن القضاء
غالب.
ملكَ
بنُوالعبّاس فظهر مكرهم وغدرهم، بايعوا ابن الحسن ثمّ جدّوا في طلبه
وطلب أخيه للقضاء عليهما، حاول ابن
عبّاس أن
يضعا يديهما بيده استسلاماً، وكيف يستسلمان وفي النفوس إباء وعزَّة
وآمال تؤيّدها الناس في طلب الوثبة، وإن خمدت فيهما تلك الروح
الوثَّابة استفزَّها الناس بالحثّ على النهضة، فما زالوا بهما حتى
وثبا بعد ذاك الاختفاء الطويل.
وما
كانت تلك الغدرة من بني
العبّاس ببني
الحسن الوحيدة في سلطانهم، غدر المنصور بأبي مسلم باني كيان
دولتهم، وقتلوا أبا
سلمة الخلال وحبسوا يعقوب
بن داود، وقتلوا الفضل
بن سهل، وما سوى هؤلاء وكم همَّوا بعليّ
بن يقطين وجعفر
بن محمّد الأشعث
الوزيرين.
وغدر
المنصور أيضاً بعيسى بن موسى العبّاسي وعزلَه عن ولاية العهد وولّى
مكانه ابنه المهدي، وكانت الولاية لعيسى جعلها له المنصور بدلاً عن
بلائه في حرب محمّد
وإبراهيم وقضائه عليهما وعلى نهضتهما، تلك النهضة التي أقلقت
المنصور وجعلته يعتقد بزوال سلطانه.
وغدر
الرشيد بوزرائه البرامكة وبيحيى الحسني بعد الأَمان، وغدر الأمين
بأخيه المأمون حين عزله عن العهد، والمأمون بالرضا (عليه السلام)
حين سمَّه بعد بيعته بولاية عهده، إلى ما لا يحصى ممّا كان منهم
من غدرة وفجرة.
وإن
أعظم غدر منهم ما كان مع بني الحسين (عليه السلام) ، كانت شيعة
بني علي جند بني
العبّاس في
إزالة دولة بني مروان كما تقدم، وكان شعارهم الطلب
بثأر القتلى من
أهل البيت، وهل قتل بسيف الأمويّين غير
الطالبيين؟ وهل لقي الشِدَّة والضيق من الأُمويين غير
العلويين؟ ولئن لاقى سواهم من الهاشميّين شيئاً من ذلك فلا يشبه ما
حلَّ بآل أبي طالب.
ندب
العبّاسيّون الناس لطلب الثأر بل ندبهم الناس إليه، وكانت هذه أمضى
وسيلة لنيل إربهم، فما استقرَّت أقدامهم في حظيرة المُلك إلا وراحوا
يتتبعون آل الرسول (صلى الله عليه وآله) فكأن العترة هم الذين
جنوا في تلك الحوادث القاسية يوم
الطفّ، وسبوا عقائل
النبوة، وأنزلوا بزيد ويحيى وغيرهما هاتيك الفظائع المؤلمة،
وكأنّما القتلى والأسرى
كانت من بني
العبّاس والجناة
عليهم العلويّون، وكأن لم يكن العلويّون هم الذين نهض الناس
انتقاماً لهم، وللأخذ بتراتهم.
ما
انجلت الحوادث عن طرد الأُمويّين إلا
وأهل البيت صرعى تلك الحوادث بدلاً من أن ينالوا العطف
من بني
العبّاس لما
حلَّ بهم من فواجع دامية من الأُمويّين،
ولما ناله العبّاسيّون أنفسهم من المُلك الفسيح
بهم.
هكذا
انجلت الغبرة بعد استلام العبّاسيّين أزمة الحكم، فما نسيت الناس
حوادث أهل البيت من الأُمويّين حتى
كانت المقارع على رؤوسهم من بني
العبّاس يتبع
بعضها بعضاً من دون رحمة، ولا هوادة، ولا فترة، لماذا هذا كلّه،
ولماذا كان أهل البيت دون غيرهم بيت المصائب والنوائب؟
اكثر قراءة