بسم الله الرحمن الرحیم
تقدم
في الاعداد السابقة البيان الكامل لنظرية الوضع على ماطرحه صاحب
الكفاية، وهذا المقال هو العرض الكامل لنظرية الوضع وفق الإعتبار
القرآني
بسم الله الرحمن الرحيم
نظرية
الوضع وفق نظرية الإعتبارالقرآني
مضمون
هذه النظرية وفق الإعتبار الذي تعطيه النشأة الإنسانية، إنه ليس
وراء ظهور المعاني من ألفاظها شيئاً غير نفس الظهور الذي ينتظره
السامع من اللفظ أو المتكلِّم عند النطق به عندما يريد إيصال
المعاني وحضورها في نفس السامع؛ لأنّ الخطاب في الألفاظ _ عندنا _
التي غايتها من الوضع التفهيم والتفهم على قَدْر السامع لاعلى قَدْر
المتكلِّم، وإن كان الأمر في كلام الله تعالى في القرآن الكريم على
خلاف ذلك تماماً؛ لتشخص اللفظ بالمعنى عند النطق به وإنعدامه،
فلاتقابل بين اللفظ والمعنى _ عند النطق بالألفاظ _ كما قد يتوهم
بحسب النظرة الأولية الساذجة البسيطة عند النظر إليهما بما هما
منفصلان مجردان عن الإنسان وغيره، فحينئذٍ: لايكون اللفظ إلا نفس
المعنى ووجوداً له عند النطق به.
وماقلناه
من النكتة المتضمنة لإنعدام اللفظ عند تشخص المعنى وتحققه يوجب
علينا توجيه الكلام عند البحث عن حقيقة الوضع وكيفية نشوء اللغة الى
مرحلة الإستعمال دون الوضع بالمعنى المصطلح المقابل للإستعمال _ كما
تعارف عند القوم واُبتني عليه عمل الفقيه في إستنباطه للأحكام
الشرعية _ وبه ترتفع كل التوهمات التي قيلت في بيان حقيقة الوضع؛
لمكان الغفلة من إنعدام اللفظ عند تشخص المعنى عند النطق
به.
وحينئذٍ
تكون حقيقة الوضع ناشئة حقيقة من إختراع اللفظ عند النطق به، ومن
طريق إستراحة الفطرة الى الإنتقال عند وضع الألفاظ من الصعب الى
السهل ويقوى الإستعمال فيها، الى أن يستقر ظهور المعنى عند النفس
ويثبت بنفس اللفظ، من غير أن يطمع أحد _ من أبناء اللغة الواحدة
التي يعيش الإنسان في أحضانها _ من تغيير اللفظ أو تبديله، وهذا هو
سرّ خلود المعاني من ألفاظها وثباتها فيما تظهر به من ألفاظها الى
ماشاء الله في جميع اللغات.
ولأجل
هذه النكتة لم يعبِّر القرآن الكريم الواصل إلينا في وصفه للشرائع
السابقة على شريعتنا من شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى # بأنها
نازلة من طريق الوحي وإن كانت هي وحياً _ الذي هو عبارة عن إلقاء
إلهي لغرض إنذار الناس كما في الألفاظ التي هي عبارة عن إلقاء بشري
لغرض الوصول الى الأغراض والمقاصد التي بها كمال الإنسان في نشأته
العنصرية _ وإختص التعبير بالوحي في هذه الآية المباركة بخصوص
الشريعة الختمية لنبينا محمد
&،
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَاوَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَاوَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَاتَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَاتَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ
يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ)1.
والفارق
بين التعبيرين _ أعني التعبير بالوصية والتعبير بالوحي وإن كانت
الوصية وحياً أيضاً _ ان يُقال: إن شريعة غيره
&
من سائر الأنبياء # محدودة بما هو الأهم والمناسب لحال أممهم
والموافق لمبلغ استعدادهم، وماوصلت إليه أمر نشوء اللغة في زمانهم،
فكان التعبير لها بالوصية أنسب، وأما شريعته
&
فهي جامعة لما يحتاج إليها البشر لكل مادقّ وجلّ، كأمر اللغة
الواقعة في متناول الكل من أبناء اللغة الواحدة مهما إمتدّ بهم
الزمان وعَظُمْ، فكان التعبير بها بالوحي أليق بحالها؛ لجامعيتها،
وإستقرار أمر نشوء اللغة عندهم وفيما يأتي من الزمان بعدهم الى
ماشاء الله.
وماقيل:
(من أن للألفاظ معاني موضوعة يضعها الواضع بسبب إدراكه
المناسبة والعلقة بين المعاني وألفاظها من دون أن تطرأ على الألفاظ
أي تبدّل أو تغيّر في مرجلة الوضع) يبطله توجّه الطفل _ عند بداية
نطقه بالألفاظ وتعلّمه اللغة _ الى الظهور؛ لإيصال مايريد إيصاله من
معاني من طريق ألفاظها ليتمم بها أغراضه ومقاصده التي يحتاجها في
ظلّ الإجتماع الذي يقع فعله فيه كسائر أفراد الإنسان الذين يعيشون
في خضّم تلك اللغة التي يعيش في أوساطها الأطفال في بداية
نشوءهم.
فالبحث
عن منشأية العلاقة السببية بين اللفظ والمعنى، ومحاولة التعرّف على
منشأية تلك العلاقة وإن كان يُعَنْوَن بعنوان حقيقة الوضع إلا أنه
خروج عن حقيقة إستعمال تلك الألفاظ لمعانيها الذي وجد كل واحد منا _
من أول ظهوره على الأرض الى أن يفارقها _ الى إن إستعمال تلك
الألفاظ لهذه المعاني مشترك بين السامع والمتكلِّم في معرفة المعاني
بهذا الظهور، وكذا مشترك أيضاً بينه وبين من سبقه من الأفراد
الكائنين على الأرض منذ نزول الشريعة الختمية بلغة العرب التي نزل
بها القرآن الكريم، من غير أن يطمع أحد من أفراد هذه اللغة فيما سبق
عند نزول القرآن والآن وفيما يأتي من الزمان في تغييرها أو تبديلها.
فعند الظهور لايكون اللفظ حينئذٍ طريقاً ومرآةً للمعنى _ كما أبطلنا
القول به في البحث الأصولي _ بل يكون اللفظ وجوداً للمعنى من غير أن
يكون غيره، فاللفظ نفس المعنى.
ومعلوم:
أن النفسية بين اللفظ والمعنى، وقولنا: (أن اللفظ نفس المعنى) هو
نتاج قوة إستعمال اللفظ في المعنى ووضوح تبادر المعنى من
اللفظ عند السامع والمتكلم معاً، الذي لايكون إلا بملاحظة التنزيل،
أي تنزيل الإجتماع الذي يقع فعل الإنسان فيه على الفطرة وإحتياجها
لإيصال المعاني من طريق ألفاظها المخترعة في كل ظرف ظرف وتبدّلها
الى حين ماإستقرت عليه أمر اللغة؛ ليكون الواضع هو الإنسان بفطرته
الإجتماعية لامجرداً عنها كما صيغت النظريات الأخرى من طريقه، أي من
طريق هذا التجريد بين الإنسان وفطرته الاجتماعية.
فحقيقة
الألفاظ المنشأة لواقع اللغة إنها مخترعة _ متغيّرة ومتبدّلة _
ويستمر الوضع فيها على هذا الحال الى أن يقوى إستعمالها فيما يظهر
منها من المعاني بالتبادر وتقف عندها الحاجة _ طبعاً عند الفطرة
الإنسانية _ الى تغييرها. فاذا بلغت من القوة في الإستعمال الى حدّ
لايطمع أحد من أفراد الانسان في تغييرها وتبديلها، وهذا إنما يكون
بعد وصول الفطرة الإنسانية الى غايتها من اللفظ، من طريق مايقف عنده
ذلك اللفظ وبلوغه الى مستوى أن يكون هو المعنى، وهذا خارج عن إرادة
الانسان؛ لوقوعه بيد الفطرة من حيث اغراضها ومقاصدها من اللفظ،
وحينئذِ تكون هذه الوحدة بينهما هي التي يُثْبِت به واقع الدلالة _
أي دلالة اللفظ على معناه _ من دون أن يحتمل أن يكون المراد من
المعنى الظاهر من اللفظ غيره عند المتكلم، وأما عند السامع فلا ؛
لوجود الموانع التي تمنع من الوصول الى المعاني من طريق ظهورات
ألفاظها، وبسبب هذه الموانع عند السامع لاغير جعل القوم الظهور
أمراً ظنياً _ وهو الحق _ فأضاف القرآن الكريم إليه التدبِّر، وهو
النظر في خصوصيات الألفاظ المحيطة بها لاأقول القرائن كما إشتهر عند
القوم؛ ليخرج الظهور من حالة الظن الى بداهة المعنى الذي ينتجه
اللفظ كما عليه هو في الواقع الذي استعمل فيه اللفظ عند المتكلم،
قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ إخْتِلَافًا كَثِيرًا)2.
وعندها تنشأ العلقة الذاتية بين اللفظ والمعنى في
اللغات.
ولكن
هذه الذاتية ليست هي الذاتية القديمة التي قيلت من قِبَل ممن سبقنا
من الباحثين _ علماء أصول الفقه _ في بيان حقيقة الوضع، عندما
قالوا: إن منشأية العلاقة السببية بين اللفظ والمعنى إما أن تكون
ذاتية قديمة أو جعلية إعتبارية!! وأما نحن فمقصودنا من كون العلقة
بين اللفظ والمعنى ذاتية، هو: أن يكون اللفظ نفس المعنى ومن ثمَّ
إنعدامه بعد وجدان اللفظ لمعناه؛ لتشخصه به. وهذا لايضرّ بجهل
المعنى عند الجهل باللفظ مع العلم بالمعنى في نفس الأمر، بيان
ذلك:
أن
المعاني التي ينتجها اللفظ بما هو وجود للمعنى ونفسه كلها مركوزة في
النفس؛ لأن المعاني يعرفها كلّ أحد؛ لوقوعها في المحسوس، ولكن
لايعرف كل احد أن الطريق الى هذا المعنى هو هذا اللفظ بعينه، ولذلك
يسأل السائل عن المعنى الذي يدلّ عليه هذا اللفظ؛ فلو لم يكن عند
السائل العلم بذلك المعنى من حيث معنويته والدلالة التي توصل بها
إلى معرفة مراد ذلك الشخص بهذا اللفظ لذلك المعنى ماقبله من
المسؤول، وماعَرَف السائل المسؤول مايقول، مع أن السائل يَقْبَل
ويَعْرِف مايبيّنه المسؤول من اللفظ.
مثاله:
النفس والبدن، فالبدن وجود للنفس، إذ لولا البدن ماظهرت النفس في
نشأتها العنصرية، ولكن هذا غير مانع من أن يكون البدن من إنشاءات
النفس ومدركاتها، وعلة ذلك التنزيل، فليس في مورد الشخص إلا الحقيقة
واما الشخص فهو أمر عدمي إعتباري _ والمراد من العدم هاهنا هو العدم
الأسمائي كما أسميناه والذي ينتجه الاعتبار لا العدم بمعنى الممتنع
لذاته الذي هو نتاج نفس التحقق بالوجود _، ليكون الواضع لتلك
الألفاظ ومايظهر منها من معاني عند الإستعمال هو الإنسان بفطرته
الإجتماعية، وان صحّ التعبير الانسان النوعي وليس الشخصي
منه.
وأما
توهم كون الواضع لتلك الألفاظ في معانيها الله أو الإنسان الفرد
الشخصي منه _ وان تكثرت افراده بالمجموع الغير الواصل الى رتبة
النوع مجرداً عن فطرته الإجتماعية _ كما إختار أحدهما كل واحد من
أصحاب النظريات الأخرى المطروحة في المقام على كثرتها فلا، حتى على
فرض صحّت بعض التصورات على مستوى الإمكان والثبوت كما عن الإيرواني
في نهاية النهاية3 والسيد محمد باقر الصدر في تقريرات درسه4 فانها
لاتصحّ عندنا؛ لعدم ابتناء النظر فيها على منظومة القرآن الكريم
وبيان معاني آياته.
وعليه:
لايكون الوضع للألفاظ إلا تعيّناً، أي: لايكون نشوء الوضع ودلالة
اللفظ على معناه الذي لايختلف عنه ولايتخلّف إلا من طريق كثرة
الإستعمال. وهو الذي يتقرر عنده المعنى من طريق الظهور اللفظي بسبب
قوة الإستعمال ومايحيط باللفظ من خصوصيات موجبة لثباته التي يسميها
القرآن الكريم بالتدبّر ونجن أسميناها بالظهور اللفظي حتى ينصرف
الذهن عند الاطلاق اليها بعد غيابها عنه بسبب ماتعارف عند القوم من
اطلاق الظهور العرفي الذي يخفيها، وهذا هو السرّ في نزول القرآن
الكريم بتلك الالفاظ المستعملة في كلام العرب وبقاءه في ثبات معانيه
الى يومنا هذا، وهو السرّ أيضاً في خلود القرآن وإشتراك الكل في
الوصول الى معانيه من طريق ظهورات ألفاظه وتمكين الذهن منها، قال
تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)5.
ولولا العمل بالظهور لما تمّ معنىً للتدبّر الذي هو بمعنى الفهم
التام، ولولا إستقرار المعنى من اللفظ من طريق ظهوره فيه لما كان
معنىً لرفع الإختلاف عند حصول التدبّر في الألفاظ ومايحيط بها من
خصوصيات، وهو ظاهر.
لبيان
أصل هذه النظرية وإيجاد التصور لها وفق الإستعداد الفطري الصحيح
بلغة التصريف، نذكر أموراً:
الأمر
الأول:
لاشك
أن هناك لكل لفظ معنى خاص يدلّ عليه هذا اللفظ المخصوص بعينه؛ علمنا
بذلك من طريق الإستعمال _ كما في مورد الطفل عند نطقه بالالفاظ
إبتداءً وهو يعيش في خضم ذلك الإستعمال في جو الإسرة والمجتمع _،
والغرض: هو لأجل تفهيم هذا المعنى من ذلك اللفظ، ليتم من طريقه
مسألة التفهيم والتفهم التي يحتاج إليها الإنسان في الوصول الى
أغراضه ومقاصده، سواءً تلك الواقعة في الغاية أو في
طريقها.
الأمر
الثاني:
إن
الوصول الى هذا المعنى الخاص من اللفظ لاينحصر في لغة من اللغات
بعينها، بل إن البحث فيه شامل لجميع اللغات على إختلافها المتعارفة
والمستحدثة، والذي يعتبر القرآن الكريم في إستعمال ألفاظه لمعانيها
المراده منها أحد المصاديق المبحوث عنها هاهنا، وإن إندرج في
إستعمال ألفاظه إبتداءً تحت لغة العرب التي كانت سائدة في زمن نزوله
على نبي الإسلام العظيم محمد &.
الأمر
الثالث:
أن
تلك المعاني المخصوصة لما يُفْهَم من الألفاظ الموضوعة لها في ظرف
إستعمالها تتميز _ عند جميع اللغات ومن ضمنها الألفاظ المستعملة في
القرآن الكريم والمعاني المرادة منها، مع الإلتفات أن الألفاظ
المستعملة في القرآن الكريم باعتبار ألفاظها هي لنا وباعتبار
معانيها هي له تعالى _ بميزة الدوام والإستمرار بعدم التخلّف
والإختلاف؛ والعلة في ذلك: بعد إن كانت الألفاظ مخترعة لمعانيها
المستعملة فيها، وهي في طور التبدل والتغير من الأصعب الى الأسهل
بحسب تشخيص الفطرة لها الى أن يقوى إستعمال اللفظ في معناه ووضوح
وصول الفطرة من طريقها الى أغراضها ومقاصدها يثبت بسبب تلك القوة في
الإستعمال ثبوت المعنى للفظ بحيث لايطمع أحد في تغييره وتبديله
لضمان وصول الفطرة الى أغراضها من طريقه، فعندها يثبت اللفظ في
معناه، ليكون فيه اللفظ نفس المعنى وموجداً إياه، فيكون اللفظ
وجوداً للمعنى لاطريقاً إليه، ومثاله: وجود البدن للنفس في نشأتها
العنصرية، فصدق البدن على الشئ هو بعينه صدق الروح عليه، وإن كانت
حقيقة أحدهما غير حقيقة الآخر، فنقول: البدن نفس الروح لاغيره، وحمل
أحدهما على الآخر حمل شايع صناعي من القسم الثالث لاالأول أو
الثاني.
الأمر
الرابع: إن النسبة بين تلك الألفاظ ومعانيها الظاهرة فيها بحسب ظرف
الإستعمال إعتبارية غير حقيقية، وإلا لما إختلفت الأفهام في إثباتها
ونفيها؛ لأنّ النسب الحقيقية لاتختلف ولاتتخلّف، وهذه تختلف
وتتخلّف: أما إختلافها؛ بإعتبار إن الألفاظ الموضوعة للمعاني متبدلة
متغيرة تتحرك بحسب طلب الفطرة لها من الصعب الى السهل، كالماء يفيض
ثمّ يجري على أخفض سطح وجهة، ثمّ قليلا قليلا الأسهل فالأسهل، حتّى
يستوعب، والطبيعة مائلة إلى الأخفّ الأسهل، الى أن يستقر بها اللفظ
ليكون نفس المعنى ووجوداً له، ولايظهر من اللفظ غيره عند العقلاء
بما هم مجتمعون بالفطرة، لتصل الفطرة من طريق تلك الألفاظ الى
مقاصدها وأغراضها التي تريد الوصول إليها وهي في النشأة العنصرية،
لتبلغ بها كمالها الأخير الذي تطلبه في سيرها التكاملي الأسمائي،
قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا
وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ
حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) في قوله:
(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَاعَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَايَفْعَلُونَ، وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ،
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا
حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ
خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ،
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ
نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ، وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ)6.
وأما
تخلفها؛ فلأنّ المعنى من اللفظ يظهر عند قوم دون قوم، وبحسب لغة دون
لغة، وهذا شاهد صدق على إعتبارها.
الأمر
الخامس:
من
الأمور المقوّمة لنظرية الوضع وفق الإعتبار دَرْك مسألة الإجتماع
الذي يقع فعل الإنسان في ظرفه، فانّ الفطرة تطلب الإجتماع لغرض
تحصيل كمالاتها التي أودعت فيها بالقوة، والفطرة مخرجة لها الى
الفعل من طريق فعلها الواقع في ظرف الإجتماع، فانه لامخرج لتلك
الكمالات الى الفعلية إلا الفعل الواقع في ظرف الإجتماع، ولايقوّم
الفعل إلا اللفظ الواقع في ذلك الظرف الذي به إنتقال وحضور المعاني
التي بها كمال تلك الأفعال، فاحتاج الأمر الى السنخية بين تلك
المعاني والألفاظ لوصول الفطرة الى أغراضها ومقاصدها بالإجتماع من
طريق الفعل. فاحتاج الأمر الى التنزيل أي: تنزيل الإجتماع الذي يقع
فعل الإنسان فيه على الفطرة وإحتياجها لإيصال المعاني من طريق
ألفاظها المخترعة في كل ظرف ظرف. فنتج: إن الواضع هو الإنسان بفطرته
الإجتماعية. وليس الواضع هو الله أو الإنسان _ سواء أكان واحداً أم
جماعة _ مجرداً عن الفطرة الإجتماعية كما توهمه كل من صوّر الوضع،
ومع الفرار من هذا بسبب وضوح بطلانه اختار مثله أن منشا الوضع كله
أو بعضه ذاتي قديم.
الأمر
السادس:
في
المعاني وكيفية وضع الألفاظ لها عند التفهيم والتفهم؛ لمكان ضرورة
البحث عن العلل في الحيوان الذي يعيش الإجتماع بشكل عام نشأت حاجة
الوصول الى المعاني، فالبداية كانت للإشارة من أجل حضور المعنى عند
الآخرين، ومن ثم إرتقى الى الفعل الصوتي كما تفعل بعض الحيوانات
الآن لتفهيم بعضها البعض، ثم إرتقى الأمر عند الإنسان الى الألفاظ
للتدليل على المعاني؛ لإستراحة الفطرة إليها. والألفاظ عند الإنسان
أوضح في إيصال المعاني من الإشارة والصوت؛ لإظهار المقاصد والغايات
التي تحتاجها الفطرة في طريق تكاملها، والتجربة أجلى من
البرهان فيما نحن فيه.
وحيث
إن جميع المعاني واقعة تحت الحس، فإستعمال الألفاظ في غير المعاني
الحسية لايكون إلا من طريق ما للحس لها من معاني، ومن هذا الطريق
صارت قسم من الآيات في القرآن الكريم متشابهة عند بعض الناس لا
مطلقاً بل فقط للذين في قلوبهم زيغ، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ...)7؛ وهذا لايكون إلا بسبب
الموانع التي تمنع الإنسان من اللحوق بالفطرة المساوقة للدين. قال
تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَايَعْلَمُونَ)8.
وبما
قلناه إنحلّ أمر التأويل في القرآن الكريم الذي هو من سنخ الحقائق
الخارجية لا الألفاظ كما فُسِّر التأويل به على ماإشتهر عند القوم،
والذي قالوا في بيانه بصَرْف اللفظ عن معناه الظاهر فيه، بمعنى:
إنطباق المعنى على المصداق، لاظهور المعنى من اللفظ!! وهذا المعنى
من التأويل هو نفس القول بصَرْف اللفظ الى معنى غير المعنى الظاهر
فيه _ كما أجمع عليه علماء السنّة والشيعة _ ولاشاهد عليه من كتاب
الله تعالى، بل الذي دعاهم إليه ماصرّحت به الروايات في أمر
المصاديق بعد جعلها مخصصة لكتاب الله ومقيَّدة له، مع إن ذكر
المصداق لاشأن له بالتخصيص أو التقييد، بل إن إظهاره ليس له غرض
وراء التعريف به سواءً في التشريعات أم في غيرها ولاعلاقة له بحقيقة
التأويل المُظْهِر لبيان معاني آيات الكتاب المنبسط على سائر
الآيات.
الأمر
السابع:
ثم
إن سألت عن علة هذا الإنتقال بين اللفظ والمعنى، وكيفية نشوء
الملازمة بينهما مع إختراع أمر الألفاظ الدالة على تلك المعاني،
وإمتناع إن يطمع أحد من أبناء اللغة الواحدة في تغييرها أو تبديلها
بعد قوة إستعمال اللفظ في معناه وتبادر المعنى من اللفظ بسبب كثرة
الإستعمال، وإن شئت فقل: بتكرر الوقوع يذعن الإنسان بالملازمة
وتخصيص المعنى وتشخصه باللفظ المخصوص؟
جوابه:
إن تقوِّم الإنسان بالنظام السببي الحاكم عليه من أول ظهوره في
النشأة العنصرية هو الموجِب لذلك التكرر والإنتقال ونشوء الملازمة
بينهما، ولولا هذا التقوِّم لما إحتاج الإنسان الى مثل هذا الإنتقال
وحصول تلك الملازمة كما في الملائكة والجن؛ لوقوعهما في نشأة مغايرة
لنشأة الأسباب، ولذا الإنتقال في موردهم يتم بحضور نفس المعنى
للسامع الذي منه بدأ الإنتقال وعندنا بالإستعانة باللفظ أو الصوت أو
الإشارة.
الأمر
الثامن:
وبما
قلناه يبطل كون الواضع هو الله من طريق القول: بأن الله سبحانه يلهم
المتكلّم بلفظ خاص عند إرادة معنى مخصوص، ولابدّ أن يتم الإلهام في
جانب المتكلم بإلهام آخر في جانب المخاطب لفهم المعنى من
اللفظ.
وجه
الفساد: إن هذا القول لايشخص لنا حقيقة الوضع بل اقصى مايثبت ويبين
لنا علة وجود اللفظ للمعنى، وهذا غير البحث عن حدّ الوضع وكيفية
نشوء الملازمة بينهما.
وأما
بحسب ماقلناه: تكون الملازمة ناشئة من المعاني نفسها التي يراد
حضورها عند المخاطب من طربق إعطاء حدودها الى الألفاظ التي تستقر
عندها المعاني؛ لإستراحة الفطرة إليها في الوصول الى أغراضها
ومقاصدها، وهذا كله أصله إنبساط نشأة العقل على الحس وظهور الحس
فيها بالوقوع. فالألفاظ لاتكون إلا نفس المعاني، ويكون اللفظ وجوداً
للمعنى، بمعنى: الشئ الذي يصدق عليه اللفظ هو بعينه الشئ الذي يصدق
عليه المعنى، وهذا لايمنع أن تكون حقيقة اللفظ مغايرة لحقيقة
المعنى. فعند إلقاء اللفظ يتشخص المعنى، وعند تشخص المعنى يكون
اللفظ في نفسه أمراً عدمياً، وهذا هو الموجب لنفي التقابل بينهما،
فإفهم.
الأمر
التاسع:
قال
أصحاب الإعتبار القرآني في بيان كيفية نشوء اللغة، بيانات تدلّ على
معنى واحد _ كما بيناه في بيان أصل نظرية كيفية وضع الألفاظ للمعاني
_ وإن إختلفت تعبيراتهم:
منها:
ماقاله إبن سينا في خاتمة كتبه الإشارات والتنبيهات، حيث قال:
(من القبيح أن يستعمل في الحدود الألفاظ المجازية والمستعارة
والغريبة والوحشية بل يجب أن يستعمل فيها الألفاظ المناسبة الناصة
المعتادة، فإن اتفق أن لايوجد للمعنى لفظ مناسب معتاد فليخترع له
لفظ من أشد الألفاظ مناسبة وليدلّ على ماأريد به ثم يستعمل
فيه)9.
ومنها:
ماقاله الطباطبائي صاحب التفسير العظيم الميزان، حيث قال:
(... ان الإنسان يتوصل إلى اللغات بوضع المعاني نفسها وعَرْضَها على
المخاطَب أولا، ثم وضع الألفاظ في محلها بالاعتبار بإعطاء حدودها
إياها بحكم الوهم، فتكون الألفاظ وجودات للمعاني بالعَرَض، ويتوصل
إلى الدلالة اللفظية أولا بالدلالة العقلية، وهي دلالة الشيء على
نفسه، ولوازمه العقلية أولا، ثم الدلالة على ذلك بمايراه نفس الشيء
وهما، وليس به حقيقة، فاللفظ نفس المعنى، ودلالته عليه دلالة الشيء
على نفسه لكن في ظرف الاعتبار وبحكم الوهم)10.
(الهوامش)
1 - الشورى:
13.
2 - النساء:
82.
3 - قال
الإيرواني : (قال الإيرواني في نهاية النهاية المتوفي
سنة 1345هــ: ( مبحث الوضع: قوله: (الوضع هو نحو اختصاص...). أقول:
دلالة اللفظ على المعنى هل هي ذاتية قديمة أم جعلية حادثة اما بجعل
من الله تعالى أو بجعل من غيره؟ فيه أقوال. والحق: إنها ذاتية
وجعلية جميعا، يعنى: إن أصل الدلالة والإشارة باللفظ إلى المعنى
ذاتية، وكون هذه الإشارة إلى معنى خاص من بين سائر المعاني جعلية
وضعية. فأصل ثبوت صفة الدلالة للفظ ليست بالجعل وانما المجعول
دلالته على المعنى الخاص) إنتهى. نهاية النهاية: علي الغروي
الإيرواني: 1: 6.
4 - قال
السيد الصدر في إختصار نظريته التي أسماها بالقرن
الأكيد، مانصه: (ومن المعلوم أن تفهيم هذه الأمور الغير محسوسة
لايكون إلّا بالتشبيه بالأمور المحسوسة، وإلّا كيف يعبّر إبتداء عن
المعنى النفسي الغير المحسوس؟ إذن: فينبغي أن يقال بناء على هذا
لإستبعاد: إن اللّه تعالى هو الذي قام بهذه المهمة بدلا عن الإنسان،
وهذا الإستبعاد أيضا وجيه، وفي محله، بناء على مبانيهم في باب
الوضع. وأما بناء على مبنانا: فلا يأتي هذا السؤال، لأنه لو طرح هذا
السؤال كيف نشأت اللغة؟ لقلنا: إنها نشأت من حيث لايدري الإنسان...)
إنتهى. بحوث في علم الأصول: حسن عبد الساتر: 2: 48. وكأنّ ماقاله
مأخوذاً من هذا الكلام وإن تأخرنا عنه زماناً.
5- النساء:
82.
6 - الزمر:
69 – 75.
7 - آل
عمران: 7.
8 - الروم:
30.
9 - الإشارات
والتنبيهات: أبو علي سينا: قسم المنطق.
10 - حاشية
الكفاية: الطباطبائي: 1: 19.
اكثر قراءة