المقالات
قسم الفكر الاسلامي
خطورة ممارسة رذيلة الكذب على التماسك الإجتماعي من منظور قرآني
في رحاب النص القرىني قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ﴾ (النحل: 105).
من طبيعة التربية الإسلامية على ضوء مفاهيم القرآن الكريم انها تعتمد ـ في بعض الأحيان ـ على ربط مقدمة السور بمؤخرتها، وكذلك تعتمد على ربط مقدمة الآيات القرآنية بمؤخرتها، ومن جملة ذلك، الآية المذكورة أعلاه.
فالقرآن الكريم جعل العلاقة الوطيدة بين الذين يفترون الكذب والذين لا يؤمنون بآيات الله!!
وأنّ الذين لا يؤمنون بآيات الله، لا يهديهم الله تعالى، ولا يعرفهم سبيل الهداية، وطعم الطاعة الربانية ولذتها.
وكما أنّ الذين يعتمدون على ممارسة رذيلة الكذب في تعاملهم العام مع الأمة لا يستحقون الرعاية الإلهية أيضاً، ولا يتعرفون على طعم اللذة في ممارسة المنهج القرآني، ولا يقدرون على العمل المستقيم، ولا يتحملون مسؤولية الاستقامة على الدوام.
ومن هنا ينبغي التوقف قليلاً، والتأمل يسيراً بالنص القرآني الرباني، ونستلهم منه بعض الفوائد والمواعظ والعبر البالغة الأهمية.
ومن أجل الإحاطة بالموضوع نجزأه إلى عدّة مباحث.
المبحث الأول:
الفوائد المستحصلة من النص القرآني ويقع في مطلبين:
المطلب الأوّل: فوائد المرحلة الأولى من النصّ القرآني:
الفائدة الأولى:
علاقة هذه الآية ـ المذكورة أعلاه ـ بما قبلها. قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (النحل: 105) ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ ﴾ (النحل: 105).
التأمل والتدبّر في هذين الآيتين، يتبين لنا من ذلك أنه هناك علاقة صميمية حقيقية بين الكاذب والكافر، وهناك ابتعاد حقيقي بين المؤمن والكاذب، وبين فضيلة الاستقامة ورذيلة الكذب، وبهذا المضمون الفكري الخطير ترتبط مقدّمة الآية بمؤخرتها، ثم يتعين مصاديقها أنه لا إيمان للإنسان الكاذب.
الفائدة الثانية:
كما أنه لا يمكن أن يجتمع الضدين المختلفين، ولا يلتقي القطبين المتنافرين، ولا يقترب الخطين المتباغظين...
وأيضاً كما أنه لا يمكن أن يلتقي المغرب بالمشرق في آنٍ واحد، فالذي يذهب إلى قطب المشرق لابدّ أن يبتعد عن قطب المغرب بالضرورة ـ والعكس صحيح ـ كذلك يجب أن يبتعد الذين يؤمنون بآيات الله عن رذيلة الكذب، لأنه لا يمكن أن يجتمع في قلب الإنسان المؤمن ولائين متنافرين،ولاء للإيمان وولاء للكذب، للتنافر الحاصل بينهما.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... ﴾.
وإنّ الذين يمارسون رذيلة الكذب هم أقرب الناس للكفر منهم للإيمان، وإن كان ظاهرهم وحديثهم مبني على معاني التقوى.
لأنّ رذيلة الكذب لها القدرة الفائقة والسريعة على أن تنخر فضيلة الإيمان وتزيله من القلب.
وأن في نظر الإسلام لا يصح القياس على الظاهر من دون تثبّت، لذلك لا يعتمد عليه في التقييم، ومن هنا جاء أن الكذّاب مرتبط قلبه بالكفر فلا يؤمن بىيات الله في باطنه، ولا يهديه الله سبحانه إلى سواء السبيل، وإن كانت هذه الحالة غير واضحة وغير مكشوفة إلى الناس، ولكن الله تعالى يكشف عن هذه الحقيقة الخطيرة في كتابه الكريم لنكون على حذر كامل منها.
الفائدة الثالثة:
إنّ الذين يفترون الكذب، ويعتمدون عليه في معاملاتهم العامة هؤلاء لا يهديهم الله إلى سبيل النجاة، لأنّ «النجاة في الصدق» وهنا ينبغي التأمل قليلاً بين حالة الكذب وحالة النجاة.
فالكذب لا يؤدي إلى حالة النجاة، لأنّ الكذب ـ كعادة سلوكية متأصلة في النفس ـ لا يؤدي إلى حالة الاستقرار النفسين ويبتعد الكاذب عن الاطمئنان القلبي، ويعيش الاضطراب العقائدي...
وإن الكاذب أو الكذب وإن أدّى إلى حالة النجاة مرة ومرتين... حتى عشرة مرات، فإنّه يؤدي إلى الهلاك الدائم في المرة الأخيرة، وإلى العذاب المهين في النتيجة.
لذلك فقد قيل:
«إياكم والكذب، وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك، وعليك بالصدق، وإن كان فيه هلاكك، فإن فيه نجاتك».
وفي هذا المجال قال الإمام علي× بمقولته الرائعة: «الإيمان : أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك».
الفائدة الرابعة:
«الكذب من أكبر الكبائر» إن في الآية دلالة على أن الكذب من أكبر الكبائر، وأفحش الفواحش، وأسوء العادات، والدليل عليه كلمة (إنّما ) في الآية في قوله ﴿إنما يفتري الكذب...﴾ وهي تجئ عادة للحصر.
والمعنى العام: أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلّا من كان غير مؤمن بآيات الله تعالى، وإلّا من كان كافراً بالقيم والمبادئ، وفي هذا النص القرآني تهديد ووعيد في الفرية.
الفائدة الخامسة:
رذيلة الكذب سريعة الالتصاق بصاحبها، وسهلة التعوّد عليها.
وذلك بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ ثم قال: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ﴾ تنبيهاً على أن صفة الكذب فيهم ثابتة، راسخة، دائمة... وهذا كما تقول: كذبت وأنت كاذب، فيكون قولك: وأنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب.
ومعناه: أن عادتك الراسخة أن تكون كاذباً، ومحترفاً للكذب.
روي أن النبي| قيل له: يا رسول الله: المؤمن يزني؟
قال: قد يكون ذلك، قيل: يا رسول الله| المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك، قيل: يا رسول الله| المؤمن يكذب؟ قال: لا، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾.
الفائدة السادسة:
الحركة الإجتماعية للإنسان الكاذب تناقض حركة المسيرة الإنسانية الطبيعية، وتناقض أيضاً حركة السنن التاريخية.
إن الكذب لا يبقى خافياً ومستوراً، وإن طال أمره نسبياً، وأنّ الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذبه، أو يحدث ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو أدعاه.
والعلّة في ذلك: إن حركة المسيرة الإنسانية مرتبتطة إرتباطاً أزلياً بحركة السنن التاريخية، ومن منطق حركة السنن التاريخية القاهرة أنها لا تقبل أساليب الكاذب، وتستنكر كذبه، وترفض حركته في الوجود، وقد تصبر عليه مدة من الزمن لكنها لا تمهله وتتركه دون عقاب، وقد يبتلى الكذاب بأنواع العقاب، ومن أولوياته أن يبتلى بآفة النسيان، فإنّ هذه الآفة تكشف قبح سريرة الكاذب، وفي هذا المجال قال الإمام الصادق×: «إنّ مما أعان الله به على الكذابين النسيان» و . (هذا من جهة) (ومن جهة ثانية):
وليس في وسع الإنسان ولأي سبب مفروض، إذا ستر شيئاً من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات والملزومات المرتبطة به، أو أن يخرجها عن مجالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى ستراً على واحدة منها ظهرت الأخرى، وإلّا فالثالثة تظهر، وهكذا.
ومن هنا كانت الدولة تستقر للحق، وإن كانت للباطل جولة.
وكانت القيمة للصدق الدائم، وغن تعلقت الرغبة أحياناً بالكذب المؤقت.
ولكن القرآن الكريم يحسم الأمر في قوله تعالى ﴿... إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾. وقال: ﴿...ِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾.
وقال: ﴿.. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾.
وقال: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾.
وذلك أنهم لما عدوا الحق كذباً بنوا على الباطل واعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضاً، ويدفع طرف منه طرفا.
وقال الإمام علي×: «شر القول ما نقض بعضه بعضاً».
وقال× أيضاً: «الكذب زوال المنطق عن الوضع الإلهي».
الفائدة السابعة:
الكاذب هو الخائن، بل الكاذب هو المرتكب أكبر الخيانات.
قال رسول الله|: «كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثاً هو لك مصّدق، وأنت به كاذب».
وقال الإمام علي×: «أقلُّ شيء الصدق والأمانة، أكثر شيء الكذب والخيانة».
فإنه× قد قرن الكذب والخيانة على السواء وجعلهما في درجة واحدة.
وقال رسول الله|: «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلّا الخيانة والكذب».
المطلب الثاني:
فوائد المرحلة الثانية من النص القرآني:
الفائدة الأولى:
الكاذب بعيد عن الله عز وجل.
إنّ الإنسان يعمل الأعمال الصالحة، التي تقربه إلى الله عز وجل، وإنّ الكذب أسوء رذيلة يتطبّع عليها الإنسان، لأنها تجمع مساوئ كل الرذائل، ثم تبعد صاحبها عن الله سبحانه.
قال رسول الله|: «إذا كذب العبد كذبة، تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به».
الفائدة الثانية:
الكاذب هو الجاهل وهو الناقص...
إنّ ممارسة حالة الكذب والإفتراء على الناس، وذلك بسبب شعور الإنسان بحالة من حالات النقص الإنساني، فيحاول أن يسده ويستر على نفسه ويغطي عيوبها بممارسة الكذب، والتعود على فنون أساليبه وكيفية الدخول منه والخروج منه بسلامة، بحيث تحصل الثقة في نفسه أنه أذكى من الناس الآخرين، فتصيبه حالة الغرور والاعجاب بالنفس، واستصغار الآخرين، بحيث يصبح بهذا الأسلوب الملتوي كاذباً محترماً فناناً، وهذا يدل على أنه يعيش الجهل المركب، والنقص في الإدراك، والضعف في العقل.
وفي هذا المجال قال الإمام الصادق×: «إن العاقل لا يكذب، وإن كان فيه هواه». فيكون الكاذب جاهل لأنه يتبع هواه، ويرتكب الشر.
قال الإمام علي×: «شر القول الكذب».
الفائدة الثالثة:
الكاذب هو المنافق.
إن الكذب حالة من حالات التلوّن، وحالة من أزدواج الشخصية، وحالة تبدو في الظاهر خلافها تستكن في الباطن، وهي حالة خطيرة جداً لو انتشرت في الأمة الإسلامية، فإنّها تبعث على التفكك، وتؤدي إلى الضعف والذلّة والاستسلام.
قال رسول الله|: «الكذب باب من أبواب النفاق».
الفائدة الرابعة:
الكذب أكبر الخبائث، ورأس كل مشكلة.
الكذب رذيلة خسيسة جداً، لأنّها جامعة لكل الرذائل والمساوئ والعيوب الأُخرى، الصغيرة منها والكبيرة، وكأن جميع الرذائل والمساوئ والعيوب مجموعة في شجرة خبيثة جذرها الذي تستقي منه هو ينبوع «الكذب».
قال الإمام الحسن العسكري×: «جعلت الخبائث في بيت، وجعل مفتاحه الكذب».
وروي أنّ رجلاً قال للنبي|: أنا يا رسول الله أستسِرّ بخلال أربع: الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والكذب، فأيتهن شئت تركتها لك! قال|: دع الكذب، فلما ولى، همّ بالزنا فقال: يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت ـ بحدود الله ـ ثم همّ بالسرقة، ثم بشرب الخمر، ففكّر في مثل ذلك فرجع إليه فقال: قد أخذت عليّ السبيل كلّه، فقد تركتهن أجمع.
قال رسول الله|:؛
«إنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار».
الفائدة الخامسة:
إنّ الكذب على الناس يؤدي غلى الكذب على الله ورسوله والمؤمنين ... وغيرهم.
إنّ الذي يمتهن فنون الكذب على جميع الناس من أجل أن يضل الناس عن سبيل الحق، فإنّه سوف يقطع ما بينه وبين الناس من أسباب العلاقة الصادقة، والصلة الوثيقة، وقد يؤدي أيضاً إلى أن يقطع صلة الترابط بين عدد من الناس، وبهذه الرذيلة الخسيسة يضل نفسه أولاً ويضل غيره ثانياً عن سبيل الهدى والاستقامة، ويقطع عوامل الصلة والارتباط بالسماء.
فيكون الكاذب ظالم لنفسه، وظالم مع من يختلط بهم، ويتعامل معهم، وإذا تفشى الكذب يعني أنه تفشى الظلم، لعلاقة الكذب بالظلم، والظلم عنوان الإنحراف، وأنّ الظالم لا يهديه الله سبحانه ويكون بعيداً عن رحمته قريباً من نقمته...
قال تعالى: ﴿... فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
الفائدة السادسة:
الكذاب هو الميت!
الكاذب هو العنصر المريض ذو المرض المعدي فيهدد بنية المجتمع، وينخر تدريجياً في هذه البنية ومن موقع خفي، حتى يتمكن من أن يرفع الثقة المتبادلة من الأمة.
فإذا سادت الثقة المتبادلة في الأمة، توحدت صفوفها، وقويت أواصرها، وبلغت أقصى قوتها، واستثمرت كل قدرتها، وابتعدت عن الجهد الضائع، والفراغ القاتل، فيصبح المجتمع متماسكاً قوياً، حياً، بل ويكون عنواناً للحياة، وقدوة للأحياء من بين بقية المجتمعات الاُخرى.
فتنتشر الثقة في الأمة إذا انتشر الصدق، ويحصل التفكك الاجتماعي إذا انتشرت رذيلة الكذب فيه.
فيأتي الكاذب ينخر في جسم هذا المجتمع، ويفتت أواصر وحدته وروابط قوته، يعني يأتي الكاذب «بالموت» لهذا المجتمع، ويسرع إليه بالفناء.
إن الكاذب يقوم بهذا العمل المشين لأنّه يجد ذلّة في نفسه فيموت كل يوم بقدر حجم هذه الذلّة التي يعاني منها.
وهكذا يكون الكاذب كالمريض المصاب بمرض معدي، فإنّه يضر نفسه ويضر الآخرين.
قال الإمام علي×: «الكذاب والميت سواء، لأن فضيلة الحي على الميت الثقة به، فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته».
الفائدة السابعة:
الكاذب يضر أكثر مما ينفع، ولو حمل مؤهلات علمية جيدة.
العلم النافع ما يؤيده العقل، وكل علم لا يؤيده العقل السليم، يعني لا تؤيده الشريعة الإسلامية الغراء، ويكون ضلالاً ومضرةً، «ومن زاد علمه على عقله كان وبالاً عليه».
والعلم السليم في العقل السليم، «والعلم يهتف بالعمل فإن استجاب له وإلّا ارتحل».
أما العلم الذي يتبناه المنحرفون، فإنه يكون وبالاً ليس على صاحبه فحسب وإنّما يكون وبالاً وضرراً عاماً، وكلما ازداد المنحرف مسؤولية، ازدادت خطورة الوبال والضرر سعةً، فإذا استلم العالِم (الكاذب) مسؤولية كبيرة، فإنّه يضر بعلمه بواسطة كذبه، ويكون وبالاً على الأمة بقدر حجم مسؤولياته وامكانياته. وفي هذا المجال الخطير قال الإمام علي×: «لا خير في علم الكذّابين».
المبحث الثاني:
الموارد التي يجوز فيها الكذب
إن كل شيء أو عمل يحتاج في إنجاحه وتقويمه وإنضاجه وإبتعاده عن الخطأ إلى أربع مقومات رئيسة.
المقوم الأول: لكل مقام مقال.
المقوم الثاني: ليس كل ما يُعلم يُقال.
المقوم الثالث: ليس كل مقال جاء أوانه.
المقوم الرابعة: ليس كل ما جاء أوانه جاء أهله.
هذه المقوّمات والقواعد الأربع تساعد الإنسان على أن لا يخطأ في مواقفه المختلفة، ودائماً يصيب الحق، ويبتعد عن المواقف الباطلة غير الصحيحة.
ومن جملة هذه المسائل التي نص في صددها، هي مسألة «الكذب» وكيف تكون هذه المسألة جائزة في موارد معينة؟
فقد يقال أن الكلام الصادق إذا كان في مكانه وزمانه وعند أهله المناسبين يكون صادقاً وصحيحاً ويبقى مقدّساً ومحترماً.
والكلام الكاذب إذا كان في مكانه وزمانه وعند أهله المناسبين يكون صادقاً وصحيحاً ومفيداً، ويبقى محترماً ومقدراً بالرغم من أنه كاذب، فالكلام الصادق في مكان وزمان وأهل يسمعون الكلام الذي يتناسب معهم الكذب، فيكون الكلام الصادق المفيد في موضع غير مناسب ويكون استخدامه بصورة غير صحيحة وغير مفيدة.
والكلام الكاذب في المكان والزمان والأهل الذين يسمعون الكلام، فيتناسب معهم الكذب، ويكون في موضعه المناسب ويكون مؤثراً وصادقاً وصحيحاً ومفيداً.
فالكلام المناسب وإن كان كاذباً، فإذا طرح في المكان المناسب، مع الطرح المناسب للناس المناسبين، في الوقت المناسب يكون هذا الكلام الكاذب المضر في مورد في غاية النفع، وفيه منتهى الفائدة وله القدرة على تقويم الاعوجاج، والإصلاح بين الناس، وحل بعض المشاكل المستعصية بينهم في مورد آخر، لذلك حددت الشريعة الموارد التي يجوز فيها الكذب وفي هذا المجال قال رسول الله|: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً، أو نمى خيراً».
وقال|: «إنّ الله عز وجل أحبّ الكذب في الصلاح، وأبغض الصدق في الفساد».
وقال الإمام الصادق×: «الكذب مذموم إلّا في أمرين: دفع شّر الظلمة وإصلاح ذات البين».
قال×: «كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلّا كذباً في ثلاثة: رجل كائد في حربه، فهو موضوع عنه، أو أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا، يريد بذلك الاصلاح ما بينهما أو رجل وعد أهله ـ زوجته ـ شيئاً وهو لا يريد أن يتم لها».
وقال المجلسي (رضي الله عنه): اعلم أن مضمون الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة.
فروى الترمذي عن النبي|: «لا يحل الكذب إلّا في ثلاث: يحدّث الرجل إمرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب في الإصلاح بين الناس».
المبحث الثالث:
مفهوم التورية في الإسلام
التورية: عمل يخالف الكذب، التورية محللة، والكذب محرم، والكذب مخالف للحقيقة مظهراً وجوهراً بينما التورية عمل يطابق الحقيقة مظهراً وجوهراً ولكن قد يحصل في تفسيرها بعض الالتباس وعند بعض الناس، وإليك بعض آيات في قصص القرآن وأحاديث مأثورة صحيحة توضح ذلك بدقة، وتكشف عن اللبس فيه.
قال تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾.
وقال تعالى: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُون﴾.
وقال أيضاً: ﴿... ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾.
في كتاب المكاسب الشيخ الأنصاري (رضي الله عنه) ما روى في الاحتجاج «أنه سئل الإمام الصادق× عن قول الله عز وجل في قصة إبراهيم على نبينا وآله وعليه السلام ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ...﴾ قال: ما فعله كبيرهم، وما كذب إبراهيم قيل: وكيف ذلك؟ فقال: إنما قال إبراهيم إن كانوا ينطقون أي أن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا، وما كذب».
وسُئل عن قوله تعالى: ﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه ألا ترى أنهمقالوا: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾ ولم يقولوا سرقتم صواع الملك.
وسُئل عن قول الله عزّ وجلّ حكاية عن إبراهيم: ﴿ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾.
قال: «ما كان إبراهيم سقيماً وما كذب، إنما عنى سقيماً في دينه أي مرتاداً» .
وقال رسول الله|: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
وقال رسول الله|: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
وقال الإمام الصادق×: «أنتم أفقه الناس، إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان، لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب».
وقال×: «لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا».
المبحث الرابع
غستماع الكذب والموقف منه
إنّ الذي يستمع الكذب أي يصغي غليه، من دون أن يثبت موقفاً إصلاحياً ضدّه، فهذا يعني أنه أصبحت خصلة استماع الكذب، والاصغاء للكاذب، حالة من حالات تشجيع الكاذب على ممارسة كذبه، ومن ثم تصبح هذه الحالة صورة مألوفة وكأنها لا حرام فيها ولا عيب ولا خلل ولا فساد...
وإنّ الذي يستمع إلى الكذب، ويصغي إلى قائله، وهو يستطيع أن يشخصه بدقة أنه كاذب ـ فتكون هذا الشخصية المستمعة للكذب تهش نفوسها لسماعه، وترتاح للباطل، «وتنقبض لسماع الحق والصد، وهذه طبيعة القلوب حين تفسد، وعادة الأرواح حين تنطمس وتذبل.
ما أحب كلمة الباطل واستماع الكذب والإفتراء وقول الزول... في المجتمعات المنحرفة وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات.. وما أروج الباطل في هذه الآونة، وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة!».
ومن طبيعة الذي يستمع للكذب يكون مرتكباً له، ويكون أكالاً للسحت، والسحت هو المال الحرام، والربا والرشوة.. وغير ذلك، وكأنما يكون الكاذب والمستمع للكذب والعارف لبه، والراضي به والساكت عنه شركاء في نفس المصير. ـ والساكت عن الحق شيطان أخرس ـ .
لذلك كان الاستماع وسيلة من وسائل التربية الشخصية، فإذا كان الاستماع بالحق فسوف يتربّى الإنسان المستمع بالحق. وإذا كان الاستماع بالباطل فسوف يتربى الإنسان المستمع بالباطل.
وفي هذا المجال سُئِلَ الإمام الصادق× عن القصاص (وأصحاب المزاح والضحك) أيحلّ الاستماع لهم؟
«فقال: لا، قال×: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس».
وقال الإمام علي×: «ولا ترفعوا من رفعته الدنيا، ولا تشيموا بارقها، ولا تسمعوا ناطقها.. فإن برقها خالب، ونطقها كاذب..» .
وقال×: «لا تمكّن الغواة من سمعك».
المبحث الخامس
لا تخدعُكم الكواذب
قال الإمام علي× في نهج البلاغة خطبة 76: «رحم الله أمرءاً سمع حُكماً فوعى، ودعى إلى رشادٍ فدنا... كابر هواه، وكذّب مناه».
وقال× أيضاً في نهج البلاغة خطبة 108:
«أين تذهب بكم المذاهب، وتتيه بكم الغياهب، وتخدعكم الكواذب؟». نفع الله به من يستمع القول فيتّبع أحسنه.
قال الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم:
أَعدى عَدُوِّكَ نَفسُكَ الَّتي بَينَ جَنْبَيْكَ. (بحار الأنوار: 70/64).
اكثر قراءة