المقالات
قسم الحوزة العلمية
طالب العلم - والسيرة الأخلاقية - عفّة النفس وعزّتها
من أهمّ الخصائل
التي يحتاجها طالب العلم في سيرته الأخلاقية عفّة النفس ، وهي تعني
ضبط النفس عن اللذات المشتركة بين عامّة الحيوانات من المأكولات
والملموسات ، والاعتدال في تناولها واستعمالها من دون إفراط ، وليس
معنى ضبط النفس رفض كلّ الشهوات والملاذّ وقهرها وكبتها على كلّ حال
، فإنّ هذا يتنافى مع أصل خلقها وتكوينها في وجود الإنسان . فإنّ
بقاء البدن بالمأكولات والمشروبات ، وفي المناكح بقاء النسل ، ولو
كان يمكن الاستغناء عن الشهوة مثلا لكان خلقها في أصل التركيب
الحيواني عبثاً ، ووبالا على صاحبها ، فمعنى عفّة النفس ضبطها بنحو
معقول ، بأن يستعملها على أربعة أنحاء : أن يتناول منها ما ينبغي ،
وفي الوقت الذي ينبغي ، ومن المقدار الذي ينبغي ، ومن الوجه الذي
ينبغي ، فتكون شهوته تحت طاعة عقله ، والعفّة جارية في كلّ الأخلاق
فهي بمعنى الحدّ الوسط من دون إفراط ولا تفريط في الصفات والسجايا
الأخلاقيّة[1].
قال الله
تعالى :
( يَحْسَبُهُمُ
الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ )[2].
(
وَلـْيَسْتَعْفِفِ الَّذينَ لا يَجِدونَ نِكاحاً حَتَّى
يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ )[3].
قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله) :
« إنّ الله يحبّ
الحييّ المتعفّف ، ويبغض البذيّ السائل الملحف ».
« من طالب حقّاً
فليطلبه في عفاف واف أو غير واف ».
« اللهمّ إنّي
أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ».
« لمّـا نفذ المال
حين تقسيمه عند رسول الله فسأله الأنصار ، فقال : ما يكون عندي من
خير فلن أدّخره عنكم ، ومن يستعفف يعفّه الله ، ومن يستغنِ يغنه
الله ».
« أحبّ العفاف إلى
الله تعالى عفاف البطن والفرج ».
« أكثر ما تلج به
اُمّتي النار الأجوفان : البطن والفرج ».
« ثلاثٌ أخافهنّ
على اُمّتي من بعدي : الضلالة بعد المعرفة ، ومضلاّت الفتن ، وشهوة
البطن والفرج ».
« أمّا العفاف :
فيتشعّب منه الرضا والاستكانة والحظّ والراحة والتفقّد والخشوع
والتذكّر والتفكّر والجود والسخاء ، فهذا ما يتشعّب للعاقل بعفافه
رضى بالله وبقسمه ».
وقال أمير
المؤمنين (عليه السلام) :
« من سكن قلبه
العلم بالله سكنه الغنى عن خلق الله ».
ويقول مولانا
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :
« أفضل العبادة
العفاف ».
« ألا وإنّ لكلّ
مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد
اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طُعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون
على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفّة وسداد
».
« ما المجاهد
الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممّن قدر فعفّ ، لكاد العفيف أن
يكون ملكاً من الملائكة ».
« العفّة شيمة
الأكياس ، الشره سجيّة الأرجاس ».
« العفّة رأس كلّ
خير ».
« العفّة أفضل
الفتوّة ».
« العفاف يصون
النفس وينزّهها عن الدنايا ».
« عليك بالعفاف
فإنّه أفضل شيم الأشراف ».
« عليك بالعفّة
فإنّها نعم القرين ».
« إذا أراد الله
بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه ».
« أصل العفاف
القناعة ، وثمرتها قلّة الأحزان ».
« من قنعت نفسه
أعانته على النزاهة والعفاف ».
« الرضا بالكفاف
يؤدّي إلى العفاف ».
« قدر الرجل على
قدر همّته ، وعفّته على قدر غيرته ».
« دليل غيرة الرجل
عفّته ».
« من عقل
عفّ ».
« الصبر عن الشهوة
عفّة ، وعن الغضب نجدة ».
« الفضائل أربعة
أجناس : أحدها الحكمة وقوامها في الفكرة ، والثاني : العفّة وقوامها
في الشهوة ، والثالث : القوّة وقوامها في الغضب ، والرابع : العدل
وقوامه في اعتدال قوى النفس ».
« ثمرة العفّة
الصيانة ».
« من عفّ خفّ وزره
وعظم عند الله قدره ».
« من عفّت أطرافه
حسنت أوصافه ».
« النزاهة آية
العفّة ».
« من اُتحف العفّة
والقناعة حالفه العزّ ».
قال الإمام
الباقر (عليه السلام) :
« ما عبد الله بشيء
أفضل من عفّة بطن وفرج ».
« وقال لرجل : أي
الاجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج ».
وقال أمير
المؤمنين في وصيّته لمحمّد بن أبي بكر لمّـا ولاّه مصر
:
« يا محمّد بن أبي
بكر ، اعلم أنّ أفضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته ،
وإنّي اُوصيك بتقوى الله في أمر سرّك وعلانيتك »[4].
فهذه نماذج من
الأخبار الشريفة ، وحقّاً كلام الأئمة أئمة الكلام ، وإنّ كلامهم
نور في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى ، لا يستغني السائر إليه
منه .
وطالب العلم لا
بدّ له من العفاف بكلّ ما للكملة من مغزى ومعنى ومصداق ، فإنّما
ينال عزّة الدارين ، ويوفّق في حياته العلميّة والعمليّة ، لو
تمثّلت العفّة في وجوده وحقيقته .
ولو عرف الدنيا
لعفّ عنها وزهد فيها .
لقد سئل بعض
العلماء عن رغبة الناس في دنياهم مع شدّة إتعابها إيّاهم ، فقال :
ذلك لقلّة معرفتهم بها ، كالصبيّ الغِرّ أعجبه من لين الرقشاء ـ
الحيّة ـ لونها ومسّها ، فلم يبرح حتّى قتله نهشها ، ولو أ نّهم
عرفوها حقّ معرفتها لنظروا إليها نظر
المريض إلى وجوه
العوّد ، نظر الجزور إلى أشفار الجازر ، فلا سماعه يطيق إن ذُكر بين
يديه ، ولا إذا اُحضر أمكنه النظر إليه .
قال بعض الصالحين
: من عرف عفّ ، ومن عفّ خفّ .
عجباً لقوم
يعجبون برأيهم *** وأرى بعقلهم الضعيف قصورا
هدموا قصورهم
بدار بقائهم *** وبنوا لعُمرهم القصير قصورا
أجل إنّ عفّة
النفس كرامة إنسانية ، وشرف نبيل ، وخلق رفيع ، وموهبة قدسيّة ، كان
ولا يزال يتحلّى بها علماؤنا الأعلام ، فعلّمونا بسلوكهم وسيرتهم
الحسنة كيف يكون طالب العلم عفيف النفس ، حتّى يحسبهم الجهّال
أغنياء من التعفّف ، فيقارعون الفقر ويكابدون الحرمان ويصبرون على
البؤس بعفّة نفس وسداد .
نقل المرحوم
الاُستاذ جلال همائي خلال مقابلة إذاعيّة معه القصّة التالية : كنت
مع آية الله الشيخ هاشم القزويني ندرس في إصفهان فترة شبابنا ، فذات
يوم كنّا نتباحث في الدرس ، وإذا بالشيخ يغمى عليه ، فأتيت بالطبيب
مسرعاً ، فسقاه الماء المحلّى بالسكّر ، فشرب قليلا ففتح عينه فجلس
وفتح كتابه مباشرةً وهو يسألني : أين وصلنا في البحث ؟ وكأ نّه لم
يحدث له طارئ ! ثمّ الطبيب أشار عليَّ أنّ إغماء الشيخ من شدّة
الجوع ، ناوله طعاماً في أسرع وقت ، فلمّـا حقّقت أمره وجدته لم
يتذوّق طعاماً لمدّة يومين لشدّة الفقر وتعفّفه وعدم إخباره أحداً
عن حاله وجوعه[5].
فلذّة العلم تغني
طالب العلم ، وتعلّمه الإباء وعزّة النفس وصرف النظر عن مال هذا
وذاك وثروته ، فيصون كرامته ويحفظ شخصيّته وعزّته ، ويبقى متحرّراً
من
قيود الرقّية
لفلان وفلان .
فمن يطمع بمال
الآخرين وعطائهم ويتقبّل هداياهم كيف يمكنه أن يأمر بالمعروف وينهى
عن المنكر ويذبّ عن حياض الإسلام ويقف في وجه الظالمين
بشجاعة .
وسلفنا الصالح من
أخلاقهم الحسنة العفّة والسداد ، وكانوا يرفضون هدايا أصحاب المناصب
والأثرياء التي تشكّل في الحقيقة وثيقة عبوديّة ذلك العالم لصاحب
تلك الهديّة .
يقول الشهيد
الثاني في منيته : فممّـا يلزم لكلّ واحد منهما ( العالم والمتعلّم
) بعد تطهير نفسه من الرذائل المذكورة وغيرها ، توجيه نفسه إلى الله
تعالى والاعتماد عليه في اُموره وتلقّي الفيض الإلهي من عنده ، ولا
يعتمد على الأسباب فيتّكل إليها وتكون وبالا عليه ، ولا على أحد من
خلق الله تعالى ، بل يلقي مقاليد أمره إلى الله تعالى في أمره ورزقه
وغيرهما ، يظهر عليه من نفحات قدسه ولحظات اُنسه ما يقوم به أوده
ويحصل مطلبه ، ويصلح به أمره ، وقد ورد في الحديث عن النبيّ (صلى
الله عليه وآله) : إنّ الله تعالى قد تكفّل لطالب العلم برزقه خاصّة
عمّـا ضمنه لغيره ، بمعنى أنّ غيره يحتاج إلى السعي ، وطالب العلم
لا يكلّف بذلك ، إن أحسن النيّة وأخلص العزيمة .
وعندي في ذلك من
الوقائع والدقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله من حسن صنع الله
تعالى بي ، وجميل معونته منذ اشتغلت بالعلم ... وبالجملة ليس الخبر
كالعيان[6].
فعالم الدين لا
بدّ له من أن يترفّع عن السفاسف ، مرفوع الهام محلّقاً في سماء
العفّة والعزّة والإباء ، غنيّاً بقناعته وزهده وورعه ، وفي نفس
الوقت الذي يحرص على أن يكون متواضعاً ، فإنّه يكون أبيّ النفس
عزيزاً عفيفاً قنوعاً ، ويدع الدنيا لأهلها .
اُنظر إلى قدوة
العلماء شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس سره) لمّـا دفع إليه أحد
أثرياء إيران مالا ليبني به بيتاً أو يشتري بيتاً لسكنه ، فإنّه
لعزّة نفسه لم يصرف ذلك المبلغ في شؤونه الخاصّة ، وإنّما صرفه
جميعه في شراء أرض وبناء مسجد عليها وهو أحد المساجد المعروفة في
النجف الأشرف باسم مسجد الشيخ الأنصاري .
وعندما رجع ذلك
الثريّ من الحجّ أراه الشيخ الأنصاري ذلك المسجد وقال له : هذا هو
منزلي الذي كنت أنت السبب فيه .
كان الشريف الرضي
(رحمه الله) شديد الالتزام بمبادئ الدين الحنيف وأحكام الشريعة ،
فكان شديد الاجتناب للتملّق والمداهنة ، ولم يقبل الصِلات والهدايا
من الملوك والسلاطين ، فكان عفيف النفس عالي الهمّة لم يقبل من أحد
صلة ولا جائزة .
يقول أحد الوزراء
المعاصرين للسيّد الرضي (رحمه الله) :
ولِد للسيّد
الرضيّ مولود ، فأرسلت إليه ألف دينار في طبق على ما هو المتعارف في
مثل ذلك ، فردّه الرضيّ قائلا : الوزير يعلم أ نّي لا أقبل من أحد
شيئاً . أرسلت ذلك الطبق ثانيةً وقلت : إنّ هذا المبلغ للمولود ولا
علاقة لك به ، فردّه ثانيةً وقال : أطفالنا أيضاً لا يقبلون من أحد
شيئاً . أرسلته إليه ثالثةً وقلت : إعطِ هذا المبلغ للقابلة ، فردّه
وقال : إنّنا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلةً غريبة ، وإنّما
عجائزنا يتولّين هذا الأمر من نسائنا ، ولسنَ ممّن يأخذن اُجرة ،
ولا يقبلنَ صلة . أرسلته إليه رابعةً وقلت : هذا للطلاّب الذين
يدرسون عندك ، فقال السيّد الرضيّ : ها هم الطلاّب جميعاً حاضرون
ليأخذ كلّ منهم ما يريد . عندها قام أحد الطلاّب وتناول ديناراً
واقتطع منه مقداراً احتفظ به ثمّ ردّ الباقي إلى الطبق . وسأله
السيّد الرضي عن سبب ذلك فقال : احتجت البارحة شيئاً من الزيت
للمصباح ولم يكن المتولّي لنفقة المدرسة موجوداً ، فاستدنت من
البقّال حاجتي من الزيت ، وقد أخذت هذا المقدار من الدينار لأداء
ديني هذا ، ثمّ ردّ الطبق .
بعد ذلك أمر
السيّد بأن يكون مع كلّ طالب من طلاّب المدرسة مفتاح لصندوق ماليّة
المدرسة ليأخذ حاجته عند الضرورة ، ولا يضطرّ أحد لمراجعة المسؤول
عن ذلك[7].
وهذا شيخنا القمي
صاحب مفاتيح الجنان ، في إحدى السنوات طلب أحد المحسنين من المحدّث
القمّي أن يقبل التزامه بدفع مبلغ خمسين ديناراً عراقياً بإزاء مجلس
وعظ المحدّث وخطابته ، وكان مصرف المحدّث آنذاك شهرياً ثلاثة دنانير
، إلاّ أ نّه رغم ذلك قال لهذا المحسن : أنا أرتقي المنبر لأجل
الإمام الحسين (عليه السلام) ، ورفض قبول ذلك المبلغ
.
هكذا كان سلفنا
الصالح ، إلاّ أ نّه نسمع اليوم بين آونة واُخرى ما يحزّ القلب
ويقطع أنياطه ، بأنّ فلان خطيب معروف يتعامل مع صاحب المجلس على
منبره ، وفي بعض الأحيان لا يتّفق معه ، لأنّ هناك من يعطيه أكثر
منه .
يحكى أنّ العالم
الشيخ رضا الاسترآبادي قال : أيّام إقامتي في كربلاء والتشرّف
بملازمة الوحيد البهبهاني ، جاء أحد التجّار للزيارة وأحضر قطعة
قماش ثمينة هديّة لسماحته ، وحيث إنّه كان قد سمع أ نّه لا يقبل
شيئاً من أحد ، فقد حاول أن يجد الطريقة المناسبة ليقبلها منه ،
فقيل له : إذا توسّط لك في قبول الهديّة الشيخ رضا الاسترآبادي فقد
يقبلها الشيخ الوحيد لأ نّه يكرمه ، فجائني فلم أقبل وساطة ذلك
لعلمي بعدم قبول الهديّة ، فقال التاجر : لو تمكّنت لأهديت له قطعةً
اُخرى ، فرضيت فأتيت الشيخ ، وبعد أن فتح الباب وأخبرته بالواقعة ،
قبل أن اُكمل كلامي أغلق الباب عليَّ وقال : تصوّرت أ نّك أتيت في
هذا الحرّ الشديد لحلّ مشكلة علميّة ، فطرقت الباب مرّة اُخرى وقلت
له : لو قبلتها لأهدى إليَّ قطعةً اُخرى فلا تجعلني أخسرها ، فضحك
الشيخ وقال : بُني ، عليك بالدرس ولا تصرف وقتك في هذه الاُمور
العبثيّة ، ثمّ قبل الهديّة وقال : بشرط أن لا تتوسّط بعد في مثل
هذه الاُمور .
وأخيراً يقول
العارف بالله الشيخ محمّد البهاري من تلامذة آية الله الشيخ حسينقلي
الهمداني الكبار ، ومن الواصلين إلى حريم القرب الإلهي ، يتحدّث عن
صفات العالم :
الثالث : لا بدّ
أن يكون متوكّلا على مولاه ، آيساً عمّـا في أيدي الناس ، فلا
يتملّق لأحد من الأغنياء ، ويسمّي ذلك تواضعاً ، فإنّ تواضع الفقير
هو التكبّر عليهم من حيث أ نّهم أغنياء .
الرابع : أن لا
يداهنهم بالخوض في الباطل طمعاً بما في أيديهم من حطام
الدنيا ...
السابع : ما
يعطيه إيّاه غيره من المال ، إن علم أ نّه حرام وجب عليه الامتناع ،
وإن علم أ نّه مشتبه أو حلال فيه منّة فردّه له راجح ، وإن علم أ
نّه هديّة محلّلة بغير منّة استحبّ له القبول تأسّياً بالنبيّ
والأئمة (عليهم السلام) ، وإن كان من الصدقات وهو مستحقّ ، فإن علم
أ نّه يعطي رياءً وسمعةً يمكن أن يقال بعدم جواز الأخذ إذا صدق أ
نّه إعانة على الإثم .
وينبغي له
التعفّف عن السؤال ما استطاع ، فإنّه فقر معجّل وحساب طويل لعدم
خلوّه من الآفات غالباً ، إذ هو متضمّن للشكوى وذهاب ماء الوجه ،
والذلّ عند غيرالله وإيذاء المسؤول ، وإعطائه استحياءً أو رياءً أو
إلجاءً أمر يورث شتم السائل وإيذاءه ، إلى غير ذلك من الآفات ، ولذا
روي : « أنّ مسألة الناس من الفواحش » ، نعم لو كان في مقام
الاضطرار ، فله ذلك ، بل قد يجب ، إلاّ أنّ تشخيص درجات هذه
المقامات في غاية الإشكال والصعوبة[8].
هذه بعض النماذج
والوصايا من سيرة علمائنا الأعلام في عفّة النفس وعزّتها ، والعفّة
تعدّ من اُمّهات الأخلاق الحسنة ، كما جاء في المحجّة البيضاء ، قال
بعض الأعلام :
« كما أنّ حسن
الصورة الظاهرة مطلقاً لا يتمّ بحسن العينين دون الأنف والفم والخدّ
، بل لا بدّ من الحسن في جميعها حتّى يتمّ حسن الخلق ، فإذا استوت
الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق ، وهي : قوّة العلم
، وقوّة الغضب ، وقوّة الشهوة ، وقوّة العدل بين هذه القوى الثلاث ،
وحسن القوّة الغضبيّة واعتدالها يعبّر عنه بالعفّة ، فإن مالت قوّة
الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة سمّي ذلك تهوّراً ، وإن مالت إلى
الضعف والنقصان سمّي ذلك جُبناً وخوراً ، وإن مالت قوّة الشهوة إلى
طرف الزيادة سمّي شرهاً ، وإن مالت إلى النقصان سمّي خموداً ،
والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة ، والطرفان مذمومتان . والعدل إذا
فات فليس له طرفان زيادة ونقصان ، بل له ضدّ واحد وهو الجور ، وأمّا
الحكمة فيسمّى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبّاً
وجربزة ، ويسمّى تفريطها بلهاً ، والوسط هو الذي يختصّ باسم الحكمة
، فإذن اُمّهات الأخلاق واُصولها أربعة : الحكمة والشجاعة والعفّة
والعدل ، فمن اعتدال هذه الاُصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة
كلّها[9].
قال أمير
المؤمنين (عليه السلام) : لا تكمل المكارم إلاّ بالعفاف
والإيثار[10].
ويقول الشهيد
الثاني في منيته في الآداب التي يشترك فيها المعلّم
والمتعلّم :
الخامس : أن يكون
عفيف النفس عالي الهمّة منقبضاً عن الملوك وأهل الدنيا ، لا يدخل
إليهم طمعاً ، ما وجد إلى الفرار منهم سبيلا ، صيانة العلم عمّـا
صانه السلف . فمن فعل ذلك ، فقد عرض نفسه وخان أمانته ، وكثيراً ما
يثمر عدم الوصول إلى البُغْية ، وإن وصل إلى بعضها لم يكن حاله كحال
المتعفّف المنقبض ، وشاهده مع النقل والوجدان .
قال بعض الفضلاء
لبعض الأبدال : ما بال كبراء زماننا وملوكها لا يقبلون ولا يجدون
للعلم مقداراً ، وقد كانوا في سالف الزمان بخلاف ذلك ؟ فقال : إنّ
علماء ذلك الزمان كان يأتيهم الملوك والأكابر وأهل الدنيا ، فيبذلون
لهم دنياهم ، ويلتمسون منهم علمهم ، فيبالغون في دفعهم وردّ منّتهم
عنهم ، فصغرت الدنيا في أعين أهلها ، وعظم قدر العلم عندهم ، نظراً
منهم إلى أنّ العلم لولا جلالته ونفاسته ما آثره هؤلاء الفضلاء على
الدنيا ، ولولا حقارة الدنيا وانحطاطها لما تركوها رغبةً عنها ،
ولمّـا أقبل علماء زماننا على الملوك وأبناء الدنيا ، وبذلوا لهم
علمهم التماساً لدنياهم ، عظمت الدنيا في أعينهم ، وصغر العلم لديهم
لعين ما تقدّم .
وقد سمعت جملةً
من الأخبار في ذلك سابقاً ، كقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «
الفقهاء اُمناء الرسل ، ما لم يدخلوا في الدنيا . قيل : يا رسول
الله ، وما دخولهم في الدنيا ؟ قال : اتّباع السلطان ، فإذا فعلوا
ذلك فاحذروهم على دينكم » ، وغيره من الأحاديث .
واعلم أنّ القدر
المذموم من ذلك ليس هو مجرّد اتّباع السلطان كيف اتّفق ، بل اتّباعه
ليكون توطئةً له ، ووسيلة إلى ارتفاع الشأن ، والترفّع على الأقران
وعظم الجاه والمقدار ، وحبّ الدنيا والرئاسة ونحو ذلك ، أمّا لو
اتّبعه ليجعله وصلةً إلى إقامة نظام النوع ، وإعلاء كلمة الدين ،
وترويج الحقّ ، وقمع أهل البدع ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
، ونحو ذلك ، فهو من أفضل الأعمال فضلا عن كونه مرخّصاً ، وبهذا
يجمع بين ما ورد من الذمّ وما ورد أيضاً من الترخيص في ذلك ، بل عن
فعل جماعة من الأعيان كعليّ بن يقطين وعبد الله النجاشي وأبي القاسم
بن روح أحد الأبواب الأربعة الشريفة ، ومحمّد بن إسماعيل بن بزيغ
ونوح بن درّاج وغيرهم من أصحاب الأئمّة ، ومن الفقهاء مثل السيّدين
الأجلّين المرتضى والرضي وأبيهما والخواجة نصير الدين الطوسي
والعلاّمة بحر العلوم جمال الدين بن المطهّر وغيرهم كالعلاّمة
المجلسي والشيخ البهائي قدّس الله أسرارهم الزكيّة
.
وأخيراً ، يا
طالب العلم ـ زاد الله في توفيقك ـ إجعل شعارك في الحياة قوله
تعالى :
( يَحْسَبُهُمُ
الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ )[11].
________________________________________
[1]راجع في ذلك جامع
السعادات للمرحوم المحقّق النراقي (قدس سره) ، وكذلك المحجّة
البيضاء للمحقّق الفيض الكاشاني (قدس سره) .
[2]البقرة : 272
.
[3]النور : 60
.
[4]ميزان الحكمة 3 :
2006 ، الطبعة الجديدة .
[5]تعليم وتعلّم : 76 ،
قصص وخواطر : 246 .
[6]منية المريد :
61 .
[7]سيماء الصالحين :
337 ، وفيه قصص بديعة في هذا المضمون ، فراجع .
[8]سيماء الصالحين :
349 .
[9]ميزان الحكمة 3 :
144 .
[10]المصدر : 147
.
[11]البقرة : 272
.
اكثر قراءة