الأمر الخامس عشر - مداراة الناس ورعاية الآداب الاجتماعية
قال الله سبحانه وتعالى :
( خُذِ العَفْوَ وَأمُرْ بِالعُرْفِ وَأعْرِضْ عَنِ الجاهِلينَ )[1].
( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ في الأمْرِ )[2].
( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ )[3].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
« أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بالفرائض ».
« جاء جبرائيل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال : يا محمّد ، ربّك يقرئك السلام ويقول لك : دارِ خلقي ».
« مداراة الناس نصف الإيمان ، والرفق بهم نصف العيش ».
« إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم الله على خلقه بشدّة مداراتهم لأعداء دين الله ، وحسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله ».
« ثلاث من لم يكنّ فيه لم يتمّ له عمل : ورعٌ يحجزه عن معاصي الله ، وخلقٌ يداري به الناس ، وحلمٌ يردّ به جهل الجاهل ».
يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) :
« المداراة أحمد الخِلال ».
« ثمرة العقل مداراة الناس ».
« رأس الحكمة مداراة الناس ».
« مداراة الرجال من أفضل الأعمال ».
« دارِ الناس تأمن غوائلهم وتسلم من مكائدهم ».
« سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس ».
« من دارى أضداده أمن المحارب ».
سئل الرضا (عليه السلام) : ما العقل ؟ قال : التجرّع للغصّة ، ومداهنة الأعداء ، ومدارة الأصدقاء .
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ قوماً من قريش قلّت مداراتهم للناس فنفوا من قريش ، وأيم الله ما كان بأحسابهم بأس ، وإنّ قوماً من غيرهم حسنت مداراتهم فاُلحقوا بالبيت الرفيع ، ثمّ قال : من كفّ يده عن الناس ، فإنّما يكفّ عنهم يداً واحدة ويكفّون عنه أيادي كثيرة »[4].
طالب العلم يمثّل بزيّه وسلوكه زيّ وسلوك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، والناس يتقرّبون إليه ويتبرّكون به ويقتدون بفعله ويهتدون بعمله وقوله ، فهو الاُسوة والقدوة ، والقائد الناجح الموفّق من كان يحمل صدراً رحباً وسيعاً ، وخُلقاً سمحاً ، وروحاً لطيفة شفّافة ، وأحاسيس ظريفة مرهفة ، يحسّ آلام الناس ويعيش مشاكلهم وقضاياهم ، ويشاورهم في الأمر ، يفتح لهم صدره ويستقبلهم بثغر باسم ، ووجه بشوش ، وقلب عطوف رؤوف .
فلا بدّ له أن يراعي شعور الناس ويداريهم بخير مداراة ، فإنّ التودّد إلى الناس نصف العقل ، وربما يضيّع علمه بسوء خلقه ، وحتّى أهله وعياله لا بدّ لهم حفظاً لمقام والدهم من مراعاة الآداب والأحكام الشرعيّة .
فحسن الخلق ورعاية آداب المعاشرة والقضايا الاجتماعية أصل مهمّ في حياة طالب العلم ، وكان سلفنا الصالح يبالغون في حفظ ذلك ، ورعاية حال الناس لا سيّما الفقراء والمحرومين .
يقول شيخنا الاُستاذ آية الله الشيخ فاضل اللنكراني دام ظلّه : رافقت اُستاذي آية الله العظمى السيّد البروجردي عليه الرحمة إلى المياه المعدنيّة في مدينة محلاّت ، وهي تنفع لعلاج آلام العظام والمفاصل ، وكان السيّد الاُستاذ مصاباً بألم في رجله . بقينا هناك عدّة أيّام وكان الناس يزورون السيّد بشوق ولهفة ، فأمر السيّد بشراء كمّية من الأغنام وذبحها وتوزيع لحمها بين الفقراء ، وعزلوا شيئاً من اللحم لطعام الظهر يعملون منه كباباً للسيّد ، وحينما وضعوا الكباب في المائدة اكتفى السيّد بخبز ولبن وخيار ، ولم يأكل من الكباب ، قالوا للسيّد بأنّ الفقراء أخذوا سهمهم ، وهذا من حقّكم . فأجاب السيّد : من المستحيل أن آكل من كباب استنشق رائحته الفقراء ، فتركنا أكل الكباب احتراماً للسيّد واُعطي للفقراء مرّة اُخرى .
قيل لبعض العرفاء المرتاضين : إنّ رجلا من المتصوّفة بلغ في ترويضه لنفسه إلى حدّ أ نّه يمشي على الماء ! فقال العارف : وكذلك يفعله الضفدع . فقيل له : وإنّ واحداً منهم يطير في الهواء ! فقال : وكذلك يفعله الذباب . قيل له : ومنهم من يسير من بلد إلى بلد في لحظة بطيّ الأرض ! فقال : وكذلك يفعل الشيطان ، يسير من المشرق إلى المغرب ، ثمّ قال : ليس بهذه الأشياء قيمة الرجل ، بل الرجل كلّ الرجل مَن كان يخالط الناس بحسن ويعاشرهم بمعروف ويخدمهم ولا يغفل عن الله طرفة عين .
وإليك ما فعله العلاّمة آية الله السيّد محسن العاملي صاحب ( أعيان الشيعة ) ، فإنّه كان يمشي خلف جنازة أحد كبار علماء السنّة في سوق الحميدية بالشام ، ثمّ صلّى عليه في المسجد الاُموي ، ثمّ أقبل الناس يقبّلون يد السيّد . فسئل السيّد : كيف هؤلاء السنّة يقبّلون يدك ؟ فأجاب : هذه ثمرة حسن معاشرتي مع الناس لمدّة عشرة أعوام ، فإنّي لمّـا قدمت إلى الشام حرّض بعض الجهلة أشدّ الأعداء عليّ ، فكان أطفالهم يرمونني بالحجارة ، وأحيانا يجرّوا عمامتي من الخلف ، ولكنّي صبرت على الأذى وعاملتهم بلطف وإحسان ، وشاركت في تشييع جنائزهم ، وعدت مرضاهم ، وتفقّدت أحوالهم ، كنت أبتسم معهم دائماً اُظهر لهم حناني ، إلى أن استبدلوا العداء بالمحبّة[5].
وهاك ما فعله العلاّمة المجلسي (قدس سره) عندما التجأ إليه أحد المؤمنين بأنّ جاره من المطربين وشقاوات إصفهان يؤذيه في الليالي ، فطلب منه العلاّمة أن يدعوهم إلى العشاء ويحضر هو أيضاً ، ولمّـا دخل المطربون المجلس وجدوا في زاوية الدار العلاّمة المجلسي ، فتعجّب من حضوره ، فجلس بجواره ، فأراد أن يسخر من العلاّمة ليضحك أصحابه عليه فقال : يا شيخ ، سجاباكم أفضل أم سجايانا ؟ فإنّا وإن كنّا من الفاسقين إلاّ أنّ لنا صفة وسجيّة تفقدونها أنتم المؤمنون . فقال العلاّمة : وما هي ؟ فقال : نحن معاشر الشقاوات من أخلاقنا أ نّه إذا أكلنا من طعام أحد لا نكسر مملحته ولا نخونه ( كنايةً عن رعاية الذمّة والملح وعدم الخيانة بمال وناموس مَن يأكلون زاده ) . فقال له الشيخ : لا تصدق في كلامك . فغاض الشقيّ وقال : أنا وأصحابي كلّنا ملتزمون بهذه السجيّة ، فإمّا أن تثبت خلاف ذلك وإلاّ ... فأجابه العلاّمة : يا هذا ، ألست طيلة عمرك تأكل ملح الله وزاده وتكسر المملحة وتخالفه وتعصيه ؟ ! ما أن سمع الرجل هذه الكلمة التي خرجت من الأعماق ، إلاّ وارتعدت فرائصه وأمر حاشيته بالخروج من المجلس ، وعند السحر أتى العلاّمة مع جماعته ، وقال له : يا شيخ ، حتّى الفجر فكّرنا في مقولتك هذه ، فوجدنا الحقّ معك وكسرنا المملحة ، وهذه ليست من شيمتنا ، والآن أتيناك تائبون مستغفرون ، فهل لنا توبة ؟ فرحّب بهم العلاّمة ، واهتدى هو وأصحابه على يديه ، فحسن حالهم[6].
وقد دخل سارق بيت أحد العلماء ، فأخذ يفتّش في كلّ زاوية من البيت فلم يجد شيئاً ، فلمّـا همّ بالخروج ناداه العالم : إنّك جئت في طلب الدنيا فليس عندنا منها شيء ، فهل تريد من الآخرة ؟ فقال السارق : نعم ، فاحتضنه العالم وعلّمه التوبة حتّى أسفر الصباح ، وبعد الصلاة ذهب إلى المسجد للدرس ، فسأل التلامذة عن الرجل ، فأجاب : أراد أن يصيدني ولكنّي اصطدته فجئت به إلى المسجد ، وهكذا أصبح السارق من التائبين المؤمنين .
وما أجمل المنطق الذي تحلّى به شيخنا الأعظم الأنصاري ، حينما اجتمع تجّار بغداد يوماً وجمعوا من أموالهم مبلغاً ، فجاؤوا به إلى الشيخ وقالوا : هذا المال ليس من الحقوق الشرعيّة ( الخمس والزكاة ) ، إنّما هو تبرّع وهديّة منّا إليك لتحسن به معيشك وترتاح في أواخر عمرك . رفض الشيخ ذلك وقال : يؤسف عليّ بعد عمر من مواساة الفقراء أن أعيش غنيّاً في آخر العمر ، فيمحى اسمي من قائمة الفقراء ، وأتخلّف عن مكانتهم السامية التي أعدّها الله لهم يوم القيامة في جنّة عرضها السماوات والأرض[7].
وإليك هذه الحكاية الرائعة عن سلوكيّة مرجع من مراجعنا العظام : حكى أحد العلماء : كنت جالساً قرب تلّ الزينبيّة وبجانبي رجلٌ واقف ، وفي الأثناء وقعت عيني على المرحوم آية الله العظمى السيّد أبي الحسن الإصفهاني أكبر مرجع زمانه للشيعة ، قد خرج مع مرافقيه من حرم الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ، والتفتّ فجأة إلى الرجل الذي كان واقفاً عندي فرأيته انطلق منفعلا نحو السيّد الإصفهاني وهو يقول بصوت عال : « سوف أشتمه بئس شتيمة » وبعد دقائق رأيته عاد باكياً عليه آثار الخجل والندامة ! سألته عن السبب لهذه المفارقة بين الموقف الأوّل وهذا الموقف ؟ فأجاب : لقد شتمت السيّد حتّى باب منزله ، وعند الباب طلب منّي الانتظار ، فرجع وبيده مبلغاً من المال ، أعطاني ذلك وقال لي : راجعنا لدى كلّ مضيقة تعترضك ، إذ أخشى أن تراجع غيرنا فلا يقضي حاجتك ، ولي إليك حاجة ، هي أ نّني أتحمّل كلّ شتيمة موجّهة إليَّ شخصياً ، ولكن أرجوك أن لا تشتم عرضي وأهل بيتي ، فإنّي لا أتحمّل ذلك[8] . وبمثل هذا الخلق الرفيع تغيّر الرجل .
وأمّا سيّدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيّد النجفي المرعشي (قدس سره) ، فأتذكّر يوماً أ نّه حينما كان صدّام اللعين يقصف مدينة قم المقدّسة وأكثر مدن إيران بالصواريخ والقذائف ، وقد خرج أهالي قم من المدينة خوفاً ورعباً وحفظاً للنفوس ، بقي سيّدنا لابثاً مع من كان ، وكان يركب من قبل السيارة من داره إلى الحرم الشريف لأداء صلاة الجماعة ، ولكن في تلك الأيّام العصيبة ، على كبر سنّه وشيخوخته ، كان يأتي إلى الحرم الشريف في مواعيد الصلاة مشياً على الأقدام ، فسئل عن ذلك ؟ فأجاب : اُريد أن يراني الناس حتّى تطمئنّ القلوب ويرتاح البال ولو جزءاً يسيراً .
كنت جالساً في غرفته بجواره ، فدخل عليه رجل طاعن في السنّ من عوامّ الناس ، فقال بعد السلام والترحيب : سيّدي ، اُعرّفك بنفسي ، أنا غلام الدلاّك ، وأودّ أن أذكر لك قصّة من حياتك ، كنت دلاّكاً في حمّـام عامّ ، وكنت أيّام شبابك تأتي مع أولادك الصغار السيّد محمود والسيّد جواد إلى ذلك الحمّـام ، فدخلتم يوماً ورأيت أطفالا فسألتني عنهم ، فأخبرتكم أ نّهم أيتام ، فقلت لأولادك لا تنادوني بكلمة ( بابا ) رعايةً لمشاعر هؤلاء اليتامى ، ثمّ أعطيتني نقوداً لأشتري لهم لوازم قرطاسية لمدرستهم ، فاشتريت لهم ذلك . أجل ، لم يكن بينه وبين الناس حاجب ، كان بابه مفتوحاً دائماً للوافدين والمراجعين ، رجالا ونساءً ، لا أنسى تلك الساعة التي كنت عنده قبل رحلته بيومين حينما دخلت عليه عجوز لأداء خمسها ، فطلبت منه أن يشفع لها يوم القيامة ، فقال (قدس سره) : إن كنت من أهل الشفاعة سأشفع لكِ . كان شفيقاً بأعدائه ، فكيف لا يداري أحبّائه وأصدقائه ؟
حدّثني يوماً عمّـا جرى عليه من حسّاده وأعدائه ، حيث كان يأتمّ به عشرات الصفوف في الصحن الشريف ، وآل الأمر إثر وشاية الأعداء وسعاية الحسّاد أن يأتمّ به نفرٌ قليلٌ من المؤمنين ، فصبر وقاوم حتّى عادت الاُلوف تصلّي خلفه . قال : في تلك الأيّام المرّة دخلت مجلساً ، كان فيه شخص من المعمّمين ، فجلست بجنبه ، ولكن من شدّة عداوته أدار ظهره عليَّ أمام الناس ، فهضمت ذلك في نفسي واحتسبتها لله ، وحينما أردت الخروج ، من حيث لا يشعر ألقيت في حجره بعض المال ، وبعد هذا كان يحدّث الناس أ نّه في تلك الليلة لم يكن عنده شيء من المال وكان في حيرة ، وأ نّه من كراماته قد وجد مالا في حجره ، ولم يشعر أ نّه أنا الذي وضعت في حجره المال . كان يقضي حوائج الناس بالمقدار الممكن ، ولا تثني عزيمته كبر سنّه ، ولا الأمراض والأسقام ، ولا الهموم والأحزان ، ولا القيل والقال ، بل بكلّ صلابة وقوّة وحول من الله سبحانه يقاوم المصاعب والمشاكل . فكان خير مثال للخلق الاجتماعي ، وأفضل آية للآداب الاجتماعية ومداراة الناس ، وبمثل هؤلاء الفقهاء العظام وعلمائنا الكرام نقتدي ونتأسّى في رعاية حقوق الآخرين ، وملاطفة الناس ، وإدارة شؤونهم ، بثغر باسم ، ووجه بشوش ، وصدر رحب ، وقلب وسيع ، وأخلاق رفيعة ، وسجايا حميدة ، نتقرّب إلى الله سبحانه بذلك ، ولنا اُسوةٌ حسنة برسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم )[9].
الله الله في مداراة الناس ، والتواضع في المجتمع ، فما أعظم الإمام الخميني ، مع علوّ مقامه الشامخ يتواضع للمجاهدين في الجبهات قائلا : اُقبّل أياديكم وسواعدكم ، لأنّ الله معها ، وأفتخر بذلك .
ويقول سماحته مخاطباً نوّاب مجلس الشورى الإسلامي : فكّروا جميعاً بالناس دائماً ، هؤلاء هم عباد الله ، هؤلاء هم الذين يقتلون الآن على الحدود ، هم الذين يواجهون صعوبات الحرب ، وهم الذين تشرّدوا ، وهم يعيشون في هذه الأماكن وهذه الخيم دون أبسط المقوّمات ، هؤلاء هم عباد الله وهم أفضل ، هم أفضل منّي ، ويحتمل أن يكونوا أفضل منكم ، فلماذا لا نفكّر بهم دائماً .
كان يقول (قدس سره) : « أنا طلبة » أي طالب علم ، أنا خادم الناس ، لا تقولوا لي قائداً ، يا ليتني كنت أحد حرّاس الثورة الإسلامية ...
وهذا الآخوند الخراساني المحقّق الكبير كان متواضعاً جدّاً خصوصاً مع أهل العلم ، كان يبادر أصغر الطلاّب بالسلام ، ويقف لهم في المجالس احتراماً ، كان يجلّ أهل العلم كثيراً . وعندما يطرق أحد الطلبة داره بعد منتصف الليل ليرسل خادمه معه إلى قابلة لوضع حمل زوجته ، فيأبى الآخوند على أنّ الخادم نائم وأنا شخصيّاً أذهب معك ، فيذهب معه حاملا الفانوس ينتقل معه من زقاق إلى زقاق حتّى قضى حاجته .
وهذا الشيخ الأنصاري الشيخ الأعظم كان يداري الناس ويعاملهم معاملة جميلة ، لا سيّما طلاّب العلوم الدينية ، في بعض الأيّام كان يتأخّر عن وقت الدرس المحدّد ، فسئل عن سبب ذلك ؟ فأجاب : أحد السادة الهاشميّين يحبّ دراسة العلوم الدينيّة ، وفاتح بذلك عدّة أشخاص ليدرّسوه المقدّمات ، إلاّ أنّ أحداً منهم لم يوافق ، واعتبروا أنّ شأنهم أجلّ من أن يتصدّوا لهذا الدرس ، وقد تولّيت تدريسه .
رأى أحد زوّار أمير المؤمنين (عليه السلام) المقدّس الأردبيلي في الطريق ولم يعرفه ، وكان ذلك الزائر يبحث عمّن يغسل له ثيابه ، فقال للمقدّس : خذ ثيابي واغسلها وائتني بها ، فأخذها وغسلها وجاء بها ليدفعها إليه ، فعرف بعض من كان بما جرى ، فعاتب ذلك الزائر وأنكر عليه ، فقال المقدّس (قدس سره) : ولِمَ تلومه ، وماذا حدث ؟ إنّ حقوق المؤمن على المؤمن أكثر من هذا بكثير .
كان العلاّمة الشيخ محمّد جواد البلاغي (رحمه الله) يتواضع لله ، فكان يذهب بنفسه إلى السوق ويشتري ما يحتاجه ويحمله في الشارع والزقاق كسائر الناس ، ولم يكن يرضى أبداً أن يساعده أحد في شؤونه ، وكان يقول : المرء أولى بحمل متاعه ـ كما ورد في الخبر الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـ .
كان مراجعنا الكرام من تواضعهم يصدّرون أسمائهم في التوقيع بقولهم : الأحقر ، أقلّ الطلاّب ، وكان صدر المتألّهين يكتب بعض الفقراء من الاُمّة المرحومة .
كان آقا رضا الهمداني ، ذلك الرجل المحقّق الكبير ، من شدّة تواضعه يقوم للطلاّب جميعهم حتّى في أثناء الدرس ، وكان يشتري لوازم بيته بنفسه ، ويعيش بين الناس ، وهكذا رجال الدين اقتداءً برسول الله من الناس وإلى الناس ومع الناس ، كان فينا كأحدنا ، من دون امتياز واستعلاء ، بل في خدمة الناس ، فخير الناس من نفع الناس ، تقرّباً إلى الله تعالى ، وبهذا يمتاز طالب العلم في سيرته الأخلاقية عن الباقين .
فرجل الدين يحمل هموم الناس : ( حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنينَ رَؤوفٌ رَحيمٌ ) .
فيعاملهم معاملة الأب العطوف الذي يتمنّى لأبنائه الصالحين السعادة الأبديّة . ويشهد التأريخ أنّ أنفع الناس للناس ، وأشدّهم خدمةً لهم ، يشاركونهم في أفراحهم وأحزانهم بعد الأنبياء والأوصياء هم العلماء ، فإنّهم تحمّلوا المشاقّ والصعاب وواجهوا التحدّيات وأنواع الجور والظلم والجنايات ، وبذلوا جهوداً جبّارة في خدمة الناس وحلّ مشاكلهم ، وفي سبيل تحريرهم من نير الفقر والظلم ، وإحياء القيم الإلهية والإنسانية ، ووضع إصر الأغلال عن الناس .
فالعالم جماهيريّ العقليّة والروح ، يكنّ بين أضلعه حبّ الناس .
كان والدي (قدس سره) حينما تسأله والدتي عن كثرة لقائه بالناس ليل نهار ، فكان في خدمتهم حتّى منتصف الليل ، فأجابها تكراراً : من حين لبسنا هذا الزيّ ـ العمّة والعباءة ـ فإنّا وقف للناس ، وصاحب الزمان (عليه السلام) يرضى منّا بذلك .
كان الشيخ زين العابدين المازندراني من أوتاد الأرض ،يروي ولده أ نّه يوماً جاءته امرأة بعد صلاة المغرب ، وبعد سويعة تحرّك والدي وذهب إلى بيت ، فطرق الباب فخرج صاحب مقهى ، ما أن رأى الشيخ إلاّ انحنى على يده يقبّلها ، فأمره الشيخ أن يرجع زوجته ، فعرفنا أنّ الرجل قد طلّق زوجته مع أنّ لها أولاد وأخرجها من المنزل ، فاستنجدت بالشيخ ليتوسّط لها مع زوجها ، فرجع إليها .
وعندما طغى الماء في كربلاء خرج الشيخ من المدينة وبدأ بنقل التراب بعباءته ليضعه في طريق الماء ، فعندما رأى الناس ذلك من الشيخ خرجوا جميعاً ينقلون التراب ، فأقاموا سدّاً بقي لعدّة سنوات .
كان الشيخ الأعظم كاشف الغطاء يرهن بيته من أجل الفقراء والمساكين ، وكان الشيخ الأنصاري آية في مساعدة الفقراء والمحرومين ، كان يصلّي استيجاراً ليسهّل عليهم إمرار المعاش ولقمة العيش .
فيا طالب العلم ، الله الله بمداراة الناس وخدمتهم ، لا سيّما البؤساء والفقراء ، فهم عيال الله سبحانه وتعالى ، فكن مباركاً ومنشأً للخيرات والمبرّات والمشاريع الخيريّة والاجتماعية ، وعند الله الحساب ، جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار ورضوان الله أكبر ، ولمثل هذا فليعمل العاملون ، وليتنافس المتنافسون .
فرجل الدين كالأنبياء دائماً يفكّر في الناس ، ويعيش مثل أفقرهم .
من طريف ما يحكى عن حياة السيّد الإمام (قدس سره) ، أ نّه عندما كان قبيل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان في ضاحية باريس ، وظهرت أزمة نفط في إيران ، فلم يعد باستطاعة الناس تدفئة بيوتهم إلاّ بمشقّة وعسر ، قال الإمام : اتركوا غرفتي بدون تدفئة مواساةً للناس[10] . وجاءه شخص وقال له : إنّ عباءتي ممزّقة فساعدني ، فتناول الإمام عباءته وقال له : اُنظر إنّ عباءتي أيضاً ممزّقة .
كان صاحب المعالم ابن الشهيد الثاني (رحمهما الله) لا يدّخر أبداً ما يزيد على قوته لمدّة اُسبوع ، مواساةً للفقراء والمحتاجين وحرصاً على عدم التشبّه بالأثرياء .
وكان صدر المتألّهين يقول : حيث إنّ قسماً من الذنوب ينشأ من كثرة الأكل والاهتمام بالبطن ، فيجب التقليل من الطعام ، وكان دائماً يردّد بيتاً لسعدي ـ الشاعر الإيراني ـ مضمونه : ( إبقِ داخلك خالياً من الطعام ، لترى فيه نور المعرفة ) . كان يعيش البساطة ، وكان يتحدّث مع الناس مباشرةً ومن دون حاجب وكاتب .
بلغ زهد الوحيد البهبهاني حدّاً بحيث أنّ ثيابه كانت من ( الكرباس الردي ) ـ نوع من القماش ينسج باليد ـ وغالباً ما كانت زوجته المكرّمة هي تهيّؤها وتنسجها ، ولم يكن يرغب أبداً بألبسة الدنيا وأقمشتها .
لم يبالِ أبداً بجمع زخارف الدنيا التي كانت في متناول أصغر طلاّبه وبأدنى التفاتة منه ، اعتزل الذين يكنزون الذهب ، اجتنب معاشرتهم ومحادثتهم ، وكان يأنس بالفقراء ويواسيهم في مأكلهم وملبسهم ، وكان يطلب من اُسرته أن يراعوا ذلك لكي يقتدي الناس به وبعائلته ، ولا ينتقدوا اُسرة الروحانيين ، كما نرى ومع كلّ الأسف هذه الظاهرة الخطرة على الحوزة والعلماء والدين في مجتمعنا الحاضر .
اللهمّ أصلح كلّ فاسد من اُمور المسلمين ، ووفّقنا وعوائلنا للزهد والعلم النافع والعمل الصالح .
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً *** تالله ما لخراب الدهر عمران
ودع الفؤاد عن الدنيا وزخرفها *** فصفوها كِدرٌ والوصل هجران
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
________________________________________
[1]الأعراف : 99 .
[2]آل عمران : 159 .
[3]المائدة : 13 .
[4]الروايات من ميزان الحكمة 3 : 238 .
[5]قصص وخواطر : 127 .
[6]قصص العلماء : 233 .
[7]المصدر : 198 .
[8]قصص وخواطر : 222 .
[9]القلم : 4 .
[10]سيماء الصالحين : 385 ، وفي هذا الكتاب قصص نافعة وكثيرة ، اُوصي الطلاّب بمطالعته ولو تكراراً كما فعلت . ومثله كتاب ( قصص العلماء ) للمحقّق التنكابني ، و ( قصص وخواطر ) .
19 تموز/يوليو 2008 الزيارات: 1236
اكثر قراءة