akdak

المقالات

قسم القرآن الكريم

أصل الإنسان

145

محمد جواد مغنية

قال تعالى :  {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف : 11].

الخطاب لبني آدم ، ومعنى خلقناكم انه جل ثناؤه أنشأ أصلنا الأول من تراب ، وأنشأنا نحن من النطفة التي تنتهي إلى التراب ، والمراد بصورناكم انه جعل المادة الأولى التي خلقنا منها بشرا سويا على الهيئة التي هو عليه : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف : 37] ، فالفرق بين الخلق والتصوير ان خلق الشيء معناه إيجاده وإنشاؤه ، أما التصوير فهو إعطاء الشيء صورة خاصة بعد إيجاده .

وتسأل : ان أتباع دارون يقولون : إن الإنسان وجد أول ما وجد على غير صورته هذه ، ثم انتقل من نوع إلى نوع ، حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن ؟.

الجواب : نحن مع الدليل العلمي الذي لا يقبل الشك ، والاحتمال المضاد ، لأنه متى طرأ الاحتمال بطل الاستدلال ، وهذه حقيقة يقينية بديهية ، لا ينكرها حتى التجريبيون الذين حصروا مصدر المعرفة بالخبرة الحسية . . وأهم الأدلة التي اعتمدها أصحاب نظرية النشوء والارتقاء هي الحفريات ، حيث كشفت عن وجود أنواع من الحيوان بعضها أرقى من بعض ، وان زمن الأرقى متأخر عن زمن الأدنى ، وان بينها وبين الإنسان شبها في كثير من المزايا .

ونحن لا ننكر هذه الكشوف ، ولكنها لا تثبت نظرية دارون ، لأنها لا تحتم أن يكون الأرقى متطورا من الأدنى في يقين لا يقبل الشك ، بل لا يجوز ذلك ويجوز أن يكون كل من الأرقى والأدنى نوعا مستقلا بذاته عن الآخر أوجدته ظروف ملائمة له ، ثم انقرض حين تغيرت ظروفه ، كما انقرض غيره من أنواع الحيوان والنبات . . وإذا جاز الأمران ، فالأخذ بأحدهما دون الآخر تحكّم .

وقرأت فيما قرأت ان كثيرا من العلماء ، وفيهم الملحدون ، كانوا يؤمنون بالنظرية الداروينية ، ولما تقدموا في ميدان العلم عدلوا عنها ، لما ذكرنا ، ولأن في الإنسان خصائص عقلية وروحية تجعله مستقلا عن جميع المخلوقات وأنواعها .

{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف : 11].

تقدم نظيره في الآية 34 سورة البقرة ج 1 ص 82 .

« قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ » . ولا هنا زائدة ، ويدل على زيادتها سقوطها من الآية 75 من سورة ص : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص : 75] ولأن المعنى لا يستقيم مع وجودها اللهم إلا أن تكون

كلمة منعك متضمنة معنى حملك ، ويكون تأويل الكلام هكذا : ما حملك على ترك السجود ، والمراد بالسجود سجود التحية ، لا سجود العبادة ، وهو طاعة للَّه تعالى ، لأنه بأمره .

« قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » . وما فعل إبليس فعلة إلا ابتدع لها مبررا ، والشرط الأساسي لكل مبرر في منطقه أن يخالف إرادة اللَّه ومرضاته ، هذا هو الأصل الأول الذي يعتمده إبليس في جميع أقواله وأفعاله . . يجتهد الفقيه في البحث ليهتدي إلى ما شرع اللَّه من أحكام ، أما إبليس فيشرع أحكاما ترتكز على قال اللَّه . . وأقول . . أمره اللَّه بالسجود لآدم فرفض ولم يعتذر ، بل اعترض بجرأة وصلافة ، وقال : كيف اسجد لمن أنا خير منه ؟ ! وكأنه يقول للَّه تعالى علوا كبيرا : كان الأولى ان تأمر آدم بالسجود لي ، دون أن تأمرني بالسجود له . . وابتدع مبررا لهذه الأولية ، وهو افتخاره بخلقه ، وتعصبه لأصله : « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » .

فالعزة والكرامة في منطق إبليس بالتعصب للأصل ، لا بتقوى اللَّه وطاعته ، وعند اللَّه بالفعل والتقوى ، لا بالأصل ، والعلم عند إبليس هو القياس والأهواء ، وعند اللَّه هو الوحي وحكم العقل الذي لا يختلف فيه اثنان لبداهته ووضوحه .

فمن تعصب لأصله ، أو قاس الدين برأيه فقد اقتدى بإبليس ، من حيث يريد أو لا يريد ، قال صاحب تفسير المنار : روي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله )قال : أول من قال قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال اللَّه تعالى له : اسجد لآدم ، فقال : أنا خير منه الخ . ثم قال جعفر :  فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه اللَّه تعالى يوم القيامة بإبليس.