الخالق القدير الذي أوجد هذا الكون بقدرته جعل فيه مجموعة من الحقائق الكبرى، وأراد للإنسان أن يفهمها من خلال توجيه الخطاب إليه والحديث معه عبر هذا الكتاب المبارك، فقسم من هذه الحقائق يختص به مباشرة بحياته وممارساته وعلاقاته في هذا الكون كبشر تحكمه علاقة بما يوجد حوله من موجودات ومخلوقات أخرى، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقائق باعتبارها ملموسة للإنسان، فتحدث عن الطبيعة وما فيها من أمور ظاهرية يباشرها، ويتعامل معها يوميا، ويتأثر بها، وتؤثر عليه كحركات الأجرام السماوية والكواكب وبالأخص حركة كوكبنا الذي نعيش عليه، وما فيه من آثار على الإنسان والحيوان والنبات والأرض التي يعيش عليها.
وهناك قسم آخر من الحقائق فوق عقل البشر لا فهم البشر كما أسلفنا في حديث مضى ، حيث هناك فرق بين عقل البشر وفهم البشر، فإذا كانت تلك الرؤى والبصائر وما يطرحه الرب في كتابه العزيز فوق مستوى الفهم فلا يفهمها العبد، ولا يفهم ما ذا يريد اللّه؟ فيكون الكتاب بالنسبة إليه غامضا.
ولكن مع ذلك وحتى تبقى معجزة القرآن خالدة فإنه تجاوز عقل البشر المحدود لا فهمه، تجاوزه من حيث المستقبل أو ما نسميه بالغيب وما وراء الطبيعة، فإن هذه أمور فوق الحياة وليست هي من الأمور المحسوسة، ولذا أكد القرآن على مسألة الغيب والإيمان به وجعله جزءا من الإيمان باللّه. لكن القرآن لم يمنع الإنسان من استخدام كل طاقاته الحسية والعقلية والتجريبية لاكتشاف قوانين الطبيعة وما في الحياة.
فالقرآن الكريم دعا المسلم إلى ضرورة ذلك بشرط أن يكون مبنيا على العلم فخاطبه قائلا { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء : 36] لكن مع تقدم الإنسان العلمي الذي يعمّق إيمانه باللّه، يبقى الغيب هو حجر الزاوية، والركن الركين لكل دين سماوي، وقد وردت في القرآن الكريم اكثر من خمسين مرة كلمة الغيب منها قوله تعالى : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود : 123] وقال أيضا : {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة : 105] وقال أيضا : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام : 59] وهذه الحقائق تبقى من علم اللّه ، وهو علم الهي شامل، وضبط لكل قواميس السموات والأرض التي لا يتسنى لأجهزتنا وقدراتنا الحسية المحدودة الإحاطة بها ، حتى يبقى القرآن بها رفيعا ومحتفظا لا ينزل إلى مستوى العقل البشري المحدود، بل هو خطاب موجه إلى الإنسان يفهمه أن حاول أن يرتفع إلى مستوى الفهم ، لان هذا الكتاب صحيح انه صغير في حجمه لكنه كبير في محتواه، فأراد اللّه أن يكون تبيانا لكل شيء وما يهم الإنسان في حاضره ومستقبله في دنياه وآخرته.
إذا لا غموض في الكتاب ولا نقص فيه، وإنما الغموض فينا نحن ، والنقص عندنا ، فجاء القرآن ليرفع هذا الغموض ، ويسد هذا النقص ، وذلك بالاقتراب إلى كتاب اللّه حتى نفهمه.
اكثر قراءة