قال تعالى : {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] .
يثار هنا سؤال وهو أنّ الآية أعلاه تقول : إنّه بظهور الحقّ، يمحق الباطل، ويفقد كلّ خلاّقيته، والحال أنّنا نرى أنّ الباطل له جولات وصيت إلى الآن، ويسيطر على مناطق كثيرة؟
وللإجابة على هذا السؤال، يجب الإلتفات إلى ما يلي :
أوّلا : إنّه بظهور الحقّ وإشراقه. فإنّ الباطل ـ والذي هو الشرك والنفاق والكفر وكلّ ما ينبع عنها ـ يفقد بريقه، وإذا استمرّ وجوده فبالقوّة والظلم والضغط، وإلاّ فإنّ النقاب قد اُزيل عن وجهه، وظهرت صورته القبيحة لمن يطلب الحقّ، وهذا هو المقصود من مجيء الحقّ ومحو الباطل.
ثانياً : لأجل تحقّق حكومة الحقّ وزوال حكومة الباطل في العالم، فإضافة إلى الإمكانيات التي يضعها الله في خدمة عباده، هناك شرائط اُخرى مرتبطة بالعباد أنفسهم، والتي أهمّها «القيام بترتيب المقدّمات للإستفادة من تلك الإمكانات الإلهية». وبتعبير آخر، فإنّ إنتصار الحقّ على الباطل ليس فقط في المناحي العقائدية والمنطقية وفي الأهداف، بل في المناحي الإجرائية على أساسين، «فاعلية الفاعل» و «قابلية القابل» وإذا لم يصل الحقّ إلى النصر على الباطل في المرحلة العملية نتيجة عدم تحقّق (القابلية) فليس ذلك دليلا على عدم إنتصاره.
ولنضرب لذلك مثلا قرآنياً، فالآية الكريمة تقول : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ} [غافر: 60] ، ولكن المعلوم لدينا بأنّ إستجابة الدعاء ليست بدون قيد أو شرط، فإن تحقّقت شرائط الدعاء فهو مستجاب قطعاً، وفي غير هذه الحالة ينبغي عدم إنتظار الإستجابة، (شرح هذا المعنى جاء في تفسير الآية 186 ـ من سورة البقرة).
وذلك بالضبط كما لو أنّنا أتينا بطبيب حاذق لمريض ممدّد على فراشه، وعندها نقول له: زادت فرصة النجاة لك، وفي أي وقت أحضرنا له دواء نذكره بأنّنا قد حللنا له مشكلا آخر، في حين أنّ كلّ هذه الاُمور هي من مقتضيات الشفاء وليست (علّة عامّة)، فيجب أن يكون الدواء مؤثّراً في المريض، وأن تراعى توصيات الطبيب، كما أنّه يجب أن لا ننسى الحمية وأثرها، لكي يتحقّق الشفاء العيني والواقعي . (تأمل)
ثمّ يضيف تعالى : لأجل إيضاح أنّ ما يقوله (صلى الله عليه وآله) هو من الله، وأنّ كلّ هداية منه، وأن ليس هناك أدنى خطأ أو نقص في الوحي الإلهي، {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } [سبأ: 50] (2).
أي إنّني لو اتّكلت على نفسي فسوف أضلّ، لأنّ الإهتداء إلى طريق الحقّ من بين أكداس الباطل ليس ممكناً بغير إمداد الله، ونور الهداية الذي ليس فيه ضلال وتيه هو نور الوحي الإلهي.
صحيح أنّ العقل هو مصباح مضيء، غير أنّ الإنسان ليس معصوماً، وشعاع هذا المصباح لا يمكنه كشف جميع حجب الظلام، إذاً تعالوا وتعلّقوا بنور الوحي الإلهي هذا حتّى تخرجوا من الظلمات، وتضعوا أقدامكم على أرض النور.
وفي ختام الآية يضيف تعالى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}.
فلعلّكم تعتقدون أنّه تعالى لا يسمع ما نقول وما تقولون، أو أنّه يسمع ذلك ولكنّه بعيد، كلاّ، فهو (سميع) و (قريب)، فلا تعزب عنه ذرّة ممّا نقول أن ندعو.
* * *
_______________________
2 ـ فيما يخصّ لماذا أورد في الجملة الاُولى (عَلَى نَفْسِي) وفي الجملة الثّانية (فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) قال بعض المفسّرين: كلّ واحدة من هاتين الجملتين تحتوي على محذوف مقدّر، والتقدير كاملا «إن ضللت فإنّما أضلّ نفسي وإن إهتديت فإنّما أهتدي لنفسي بما يوحي إليّ ربّي» (تأمّل!!) ـ تفسير روح المعاني ـ تفسير الآية مورد بحثنا.
اكثر قراءة