المقالات
قسم الأدب و اللغة
التشبيه الضمني
التشبيه الضمني : تشبيه لا يوضع فيه المشبه والمشبه به في صورة من صور التشبيه المعروفة ، بل يلمحان في التركيب . وهذا الضرب من التشبيه
ص101
يؤتى به ليفيد أن الحكم الذي أسند إل المشبه ممكن .
وبيان ذلك أن الكاتب أو الشاعر قد يلجأ عند التعبير عن بعض أفكاره إلى أسلوب يوحي بالتشبيه من غير أن يصرح به في صورة من صوره المعروفة .
ومن بوعث ذلك التفنن في أساليب التعبير ، والنزوع إلى الابتكار والتجديد ، واقامة البرهان على الحكم المراد اسناده إلى المشبه ،والرغبة في اخفاء معالم التشبيه ؛ لأنه كلما خفي ودقّ كان أبلغ في النفس .
ولنأخذ مثالا لذلك ، وهو قول أبي فراس الحمداني :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فهو هنا يريد أن يقول : إن قومه سيذكرونه عند اشتداد الخطوب و الأهوال عليهم ويطلبونه فلا يجدونه ، ولا عجب في ذلك لأن البدر يفتقد ويطلب عند اشتداد الظلام .
فهذا الكلام يوحى بأنه تضمن تشبيها غير مصرح به ؛ فالشاعر يشبه ضمنا حاله وقد ذكره قومه وطلبوه فلم يجدوه عندما ألمت بهم الخطوب بحال البدر يطلب عند اشتداد الظلام . فهو لم يصرح بهذا التشبيه و إنما أورده في جملة مستقلة وضمنه هذا المعنى في صورة برهان .
ولنأخذ مثالا آخر وهو قول البحتري :
ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم
وللسيف حد حين يسطو ورونق
فممدوح البحتري يلقى الشجعان بوجه ضاحك وهو يروعهم ويفزعهم في الوقت ذاته ببأسه وسطوته ، وكذلك السيف له عند القتال والضرب رونق وفتك ، و هذا كلام يُشم منه رائحة التشبيه الضمني .
ص102
فالبحتري لم يأتِ بالتشبيه صريحا فيقول : إن حال الممدوح يضحك في غير مبالاة عند ملاقاة الشجعان و يفزعهم ببأسه وسطوته تشبه حال السيف عند الضرب له رونق و فتك ، ولكنه أتى بذلك ضمنا ، لباعث من البواعث السابقة .
ولنأخذ مثالا ثالثا وهو قول ابن الرومي :
قد يشيب الفتى وليس عجبا
أن يُرى النور في القضيب الرطيب (1)
فابن الرومي يود أن يقول هنا : قد يعتري الفتى الشيب في ريعان شبابه ، وليس ذلك بالأمر العجيب لأن الغصن الغض الندي قد يظهر فيه الزهر الأبيض قبل أوانه .
فالأسلوب الذي عبر به ابن الرومي عن فكرته هنا يتضمن تشبيها لم يصرح به ، فإنه لم يقل مثلا : إن الفتى وقد شاب مبكرا كالغصن الغض الرطيب وقد أزهر قبل أوانه ، ولكنه أتى بالتشبيه ضمنا ، لإفادة أن الحكم الذي أُسند للمشبه أمر ممكن الوقوع .
و لنأخذ مثلا أخيرا وهو قول أبي تمام :
لا تنكري عطل الكريم من الغنى السيل حرب للمكان العالي
يريد أبو تمام أن يقول لمن يخاطبها : لا تنكري خلو الرجل الكريم من الغني ، فإن ذلك ليس غريبا ؛ لأن قمم الجبال وهي أعلى الأماكن لا يستقر فيها ماء السيل .
فالكلام يوحي بتشبيه ضمني ، ولو صرح به لقال مثلا : إن الرجل الكريم المحروم الغني يشبه قمة الجبل وقد خلت من ماء السيل . ولكن
ص103
الشاعر لم يقل ذلك صراحة ، و إنما أتى بجملة مستقلة وضمنها هذا المعنى في صورة برهان على إمكان وقوع ما أسنده للمشبه .
وفيما يلي طائفة من أمثلة التشبيه الضمني :
1- قال المتنبي :
وما أن منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام (2)
المشبه حال الشاعر لا يعد نفسه من أهل دهره و إن عاش بينهم ،
و المشبه به حال الذهب يختلط بالتراب ، مع أنه ليس من جنسه .
2- وقال أيضا :
ومن الخير بطء سيبك عني أسرع السحب في المسير الجهام ُ(3)
المشبه حال العطاء يتأخر وصوله ويكون ذلك دليلا على كثرته ، والمشبه به حال السحب تبطئ في السير ويكون ذلك دليلا على غزارة مائها .
3- وقال أبو العتاهية :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
المشبه حال من يرجو النجاة من عذاب الآخرة و لا يسلك مسالك النجاة ، والمشبه به حال السفينة التي تحاول الجري على الظارض اليابسة .
4- وقال ابن الرومي :
ص104
ويلاه إن نظرت و إن هي أعرضت وقع السهام ونزعهن أليم
المشبه حال المحبوبة إذا نظرت و إذا أعرضت ، والمشبه به حال السهام تؤلم إذا وقعت وتؤلم إذا نُزعت .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النور : الزهر الأبيض ، والقضيب الرطيب : الغصن الغض الندي .
(2) الرغام : التراب .
(3) السيب : العطاء ، والجهام : السحاب لا ماء فيه .
اكثر قراءة