akdak

المقالات

القسم الولائي

الحسين وأصحابه في طفيات الشيخ صالح الكواز

265

الدكتور علي كاظم المصلاوي

الحسين وأصحابه في طفيات الشيخ صالح الكواز

الدكتور علي كاظم المصلاوي

*********************************************

لعل أول محور من المحاور الموضوعية التي دارت عليها (طفِّيِّات) صالح الكواز الحلي وكان عنصراً بارزاً فيها هو الحسين (عليه السلام) ومصرعه على أرض الطف ، وما مثله من قيم دينية وخلقية مقدسة ، وما أضفى عليه من وصف لشجاعته وكرمه وظمئه في ذلك اليوم العصيب ، وفي الغالب جاء هذا المحور متداخلاً مع محور موضوعي آخر مرتبطٍ معه وهو أصحاب الحسين ووصف مصرعهم وشجاعتهم ودفاعهم عن الحسين وعن حرم آل الرسول ، لذلك سنتناول هذين الموضوعين معاً آخذين بنظر الاعتبار خصوصية الموضوع الواحد.

وتطالعنا أولى تلك القصائد ، وقد ابتدأها الشاعر باسم الحسين عليه السلام فنراه يقول[1]:

باســـمِ الحسينِ دعا نعاءِ نعاءِ *** فنعى الحياةَ لسائرِ الأحيــاءِ

وقضى الهلاكَ على النفوسِ وإنَما *** بقيتْ ليبقى الحزنُ في الأحشاءِ

يومٌ به الأحزانُ مازجتِ الحشـى *** مثل امتزاجِ المـاءِ بالصهباءِ

لقد جعل الشاعر من هذه الأبيات الثلاثة مدخلاً أو مقدمة لموضوعه ، فالحسين المنعى ، والحسين الحزن الباقي في الأحشاء ، والحسين الحياة لسائر ألأحياء ، والحسين الحزن الممزوج بالحشى كما تمتزج الماء بالصهباء ، وهذا التشبيه مكرر استعمله الشاعر لإثبات حالة المقارنة ، ثم يبدأ موضوعه الرئيس بقوله:

لم أنسَ إذ تركَ المدينةَ وارداً *** لا ماءَ مديــن بل نجيع دماءِ

قد كان موسى والمنية إذ دنتْ *** جاءتــه ماشية على استحياءِ

وله تجلّى الله جلَّ جلالـــه *** من طورِ وادي الطفِّ لا سيناءِ

فهناكَ خرَّ وكل عضوٍ قد غدا *** منه الكليــمُ مكلّـم الأحشاءِ

إنَّ هذه البداية الموضوعية تشير إلى مسألة مهمة وهي أن بداية واقعة الطف ليست في يوم العاشر من عاشوراء ، وإنما كانت منذ خروج الحسين من مدينة جده (المدينة المنورة) بعدما شعر بخطر الأعداء وتربّصهم به ، وهنا يستغل الشاعر الموروث الديني والقصص القرآني ، فيربط بين خروج النبي موسى (عليه السلام) من مصر خائفاً مترقباً إلى (مدين) حيث ماؤها العذب والتقاؤه ببنتي شعيب (عليه السلام) إذ جاءته إحداهما تمشي على استحياء فطلبت منه السقاء لأغنامهم[2]، ولكن هذا المشهد الجميل بتفاصيله التي أوحى بها الشاعر مستغلاً معرفة المتلقي (السامع) بتفاصيلها لم يكن كذلك فيما وقع للحسين، فماء مدين الذي جاءه موسى قابله نجيع الدماء بكربلاء ، وما بنت شعيب التي جاءت لموسى على استحياء إلّا المنية المحتومة والمصير المقدَّر الذي لاقاه أبو الشهداء ، وحيث تجلّى الله جل جلاله لموسى في طور سيناء تجلّى للحسين في طور وادي الطف ، فهناك وقع الحسين ولم يكن فيه عضو لم تصله سيوف الأعداء ورماحهم وسهامهم الغادرة ، ولم يكن من موسى الكليم إلا أن يتألم على كل عضو مجروح في ذلك الجسد الشريف.

ولا ريب في أنَّ هذه الصورة التي اصطنعها الشاعر صورة فريدة في بابها ، مبهرة للسامع ، مثيرة لخياله على إنَّ مثل هكذا مقارنات بين الإمام الحسين والأنبياء المرسلين تعكس جملة من الأمور أهمها:

الحسين عليه السلام هو الامتداد الحقيقي لرسالة السماء. الحسين عليه السلام يمثل ويجسد هؤلاء الأنبياء لأنه واصل ما ابتدؤوه وأحيى سنتهم بإطارها العام وسنة جده خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) بإطارها الخاص. إنَّ هذه المقارنات جاءت من قبيل إعلاء منزلة الحسين وعظيم ما افتدى به ، وهي توضح طاعة الحسين لأمر الله ورسوله بوقوفه بوجه الطغاة والكافرين لإعلاء راية التوحيد التي بعث الله لها الأنبياء ، فإعلاء منزلة الحسين مقارنة بما فعله الأنبياء وحدث لهم لم يكن إلا بدافع إبراز ذلك الموقف العظيم وليس أمراً آخر. كان هذا اللون من المقارنات ما يميز شعر الشاعر من بقية الشعراء وقد أجاد فيه في عموم شعره.

وللتأكيد على هذه الظاهرة في شعره نجده يخاطب الحسين في إحدى قصائده الطفية بقوله[3]:

فما أعابكَ قتلٌ كنتَ ترقبُــه *** به لكَ الله جم الفضلِ قد جَمعا

وما عليكَ هوانٌ أن يُشالَ على *** الميّاد منكَ محيّاً للدُجى صدعا

فهو يصور الحسين وقد ارتقب اليوم الذي يقتل فيه ، وقد علم أنَّ الله عز وجل قد جمع له كل الفضل وكل الشرف في ذلك اليوم العظيم الذي حمل فيه رأسه على الرمح وكان محياه يتلألأ نوراً كأنه البدر وقد أشرق بالدجى ، ثمَّ يقول واصفاً:

كأنَّ جسمكَ (موسى) مذ هوى صعقاً *** وإنَّ رأسكَ (روح الله) مُذ رفعا

وواضح من هذا التشبيه عقد المقارنة الموضوعية ، فالشاعر يرى في موضوع قصة موسى عندما خرَّ وصعق مما رأى وسمع[4] أنه يشابه جسد الحسين عندما خرَّ أو هوى على تراب كربلاء ، وكأنَّ الشاعر يريد لنا أن نستحضر ما جرى على الحسين عندما كان على هذه الحالة وبين موسى عندما كان في حالته وبعدها عندما أفاق ، فالموقفان على ما بينهما من البون الشاسع يربط الشاعر بينهما برابط الوقوع السريع المفاجئ ، وهذا الرباط ينقطع عندما يتداعى ذهن المستمع ليتذكر تفاصيل ما جرى على الحسين وما جرى على موسى.

أما الشطر الثاني فيعقد مقاربة موضوعية كالتي فعلها في الشطر الأول فيرى في رفع الله جلَّ شأنه لعيسى عندما صلبوه[5] كرأس الحسين عندما رفع فوق رؤوس الرماح، وهنا أيضاً الالتقاء الموضوعي بين التشبيهين هو الرفع، ولكن اختلفا اختلافاً شديداً ما عدا ذلك بين رفع عيسى ورفع رأس الحسين.

وهذا البيت جعل الشيخ صالح الكواز الحلي أشعر من رثى الحسين في نظر الحاج جواد بدقت وهو أحد شعراء كربلاء المشهورين في حقبة شاعرنا عندما سُئِل عن أشعر من رثى الإمام الحسين ، فقال: أشعرهم من شبه الحسين بنبيين من أولي العزم في بيت واحد[6]، وهذه النظرة تكشف عن تميز ملحوظ في أسلوب الشاعر تمتع به وجلب الأنظار إليه.

وإذا ما عدنا إلى ما بعد هذا البيت فإن الشاعر يخبرنا بالحزن الذي عمَّ النبيين جميعاً عندما أعلمهم الله جل شأنه باليوم الذي يقتل فيه الحسين، فنراه يقول مخاطباً الحسين[7]:

كفى بيومِكَ حزناً أنه بكيــتْ *** له النبيونَ قدماً قبل أن يَقِعَــــا

بكاكَ (آدمُ) حزناً يوم توبتِـــه *** وكنتَ نوراً بساقِ العرشِ قد سَطَعا

و(نوح) أبكيته شجواً وقلَّ بأن *** يبكي بدمعٍ حكى طوفانَه دفعــا

ونارُ فقدكَ في قلبِ (الخليلِ) بهـا *** نيرانُ نمرودَ عنه اللهَ قد دفعــا

كلمتَ قلبَ (كليمِ اللهِ) فانبجستْ *** عيناهُ دمعاً دماً كالغيثِ منهمعــــا

ولو رآكَ بأرضِ الطفِّ منفرداً *** (عيسى) لما اختار أن ينجو ويرتفعا

ولا أحبَ حياةً بعد فقدِكـــم *** وما أرادَ بغيرِ الطفِّ مضطجعـــا

لا شك أنَّ هذا الأمر الذي يطرحه الشاعر نابع من إيمان حقيقي وولاء عميق بحب الحسين وبحب محمدٍ وأهل بيته الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام) الذين فضّلهم الله وشرّفهم وأعلا منزلتهم على جميع الخلق وطهرهم تطهيرا ، وهذا مثبت في القرآن الكريم وسنة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم[8] ، والشاعر قد انطلق من هذا الاعتقاد الراسخ في قلوب المؤمنين ، فهؤلاء الأنبياء على عظم شأنهم عند الله ومنزلتهم الكبيرة العالية وهم عباده المخْلَصون يبكون على ما أصاب الحسين الذي كان يوم ذاك نوراً بساق عرش الله ساطعاً منيراً[9]، ونراهم يتشفّعون بالإمام ليكشف عنهم الضراء وليتوب عليهم ، والسامع من غير الشيعة ليرى في هذا الكلام مغالاة وخروجاً عما هو واقع ولربما عدّوه كفراً ولكن هذا الكفر هو إيمان في قلب الشاعر واعتقاد راسخ في ذهنه وشعوره وهو عين الحق وما دونه سراب.

ونجد الشاعر يصف الحسين وشجاعته في ذلك اليوم العصيب بعدما قتل أصحابه وبقي وحيداً مفرداً وقد كنى عنه بـ (السبط) فقال[10]:

وعدا السبطُ للعدى فوقَ طرفٍ *** خِيلَ صقراً على الحمائمِ حامـا

فكأنَّ الرياحَ منه استعــارتْ *** يومَ عادٍ عدواً فأضحتْ رمامـا

فلقَ الهامَ بالمهنَّدِ حتــــى *** منعَ الدمَ أن يثورَ القتـامـــا

خضَّبَ الخيلَ بالدمـاءِ إلى أن *** كان منها على اللغامِ اللغامـا

غادرَ الخيلَ والرجالَ رمامــاً *** والقنا السمر والنصالَ حطامـا

بطلٌ كافحَ الألوفَ فريـــداً *** ولديه الأملاكُ كانتْ قِيامـــا

وأتى النصرُ طالب الإذنَ منـه *** وإليه الزمانُ ألقى الزمــاما

فأبى أن يموتَ إلا شهيـــداً *** ميتة فاقت الحياةَ مقامــــا

فكأن الحمامَ كان حيــــاةً *** وكأن الحياةَ كانتْ حِمامـــا

يصور الشاعر في هذه الأبيات شجاعة الحسين الخارقة بما أضفى عليها من تشبيهات واستعارات لطيفة ، ولكن الملفت للنظر على الصعيد الموضوعي مسألتان ، أولهما: إيمان الشاعر بأن الحسين كان يملك الإمكانية الغيبية للتفوق على أعدائه حتى إن النصر أتى إليه طالباً الإذن منه كما ألقى الزمان زمامه إليه ، وهذا الاعتقاد لم يكن وليد فراغ ، فالحسين سبط للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنه في الوقت نفسه ، وهو سيد شباب أهل الجنة ، وهو الإمام إن قام وإن قعد إلى غير ذلك من الأحاديث التي تؤكد على منزلة الحسين الرفيعة عند الله جل وعلا التي تواترت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فكيف لا تكون الأملاك قياماً بين يديه[11].

أما المسألة الثانية فهي إباء الحسين إلا أن يكون الفداء لدين جده ، وهذا الأمر لم يكن اعتيادياً، فموت الحسين شهيداً قد فاق الحياة مقاماً ورفعة ، ثمَّ أوضح الشاعر هذا المعنى بصورة جلية مستعملاً أداة التشبيه (كأنَّ) في بداية الصدر والعجز في قوله:

فكأنَّ الحمام كان حيــــاة *** وكأنَّ الحياة كانتْ حِمامــا

وهكذا كان حال أبي عبد الله ، فقد رأى بعين البصيرة أنَّ موته حياة وأي حياة ، الحياة الخالدة من خلال التضحية والفداء بالنفس الغالية وإن بقاءه هو الموت بعينه ، فاختار الموت على حياة الذل والهوان.

ويخاطب الشاعر الحسين بـ (يا قتيلاً) بقوله[12]:

يا قتيلاً شقّتْ عليه المعــالي *** جيبها واكتستْ ضناً وسُقامـا

إنَّ دهراً أخنى عليكَ لدهــرٌ *** عيَّرته الدهورَ عامـاً فعامــا

بل ويوماً قُتلتَ فيه ليـــومٌ *** قد كسا ثوبُ حزنهِ الأيامـــا

إنها العاطفة الصادقة والانفعال الحزين جسده الشاعر بألوان المجاز والاستعارة الجميلة في أبياته ، فقد جعل المعالي تشق ثوبها على ما حلَّ بالحسين ويدركها الوهن والسقم ، وإن الدهر الذي ظلم الحسين وأخنى عليه هو دهر قد عيّرته الدهور عاماً فعاما ، بل إن اليوم الذي قتل فيه ليس يوماً اعتيادياً فقد كسا الأيامَ ثوبُ حزنٍ لا يُبلى فهو متجدد أبد الدهر.

ونجد الشاعر في طفِّية أخرى يدخل من باب ندب النساء لقتلاهن يوم الطفِّ ثم يسترسلُ بوصفه شجاعة هؤلاء القتلى وبطولاتهم حتى قضوا على رمال كربلاء ، وذلك في قوله[13]:

يندُبنَ قوماً ما هتفنَ بذكرهم *** إلّا تضعضعَ كل ليثِ عريـنِ

السالبينَ النفسَ أولَ ضربةٍ *** والملبسينَ الموتَ كلَّ طعيـنِ

لو كل طعنةِ فارسٍ بأكفِّهم *** لم يُخلقِ المسبارَ للمطعونِ

لا عيبَ فيهم غير قبضهم اللــوا *** عند اشتباكِ السمرِ قبضَ ضنينِ

سلكوا بحاراً من دماءِ أميَّة *** بظهورِ خيلٍ لا بطونِ سفيـنِ

ما ساهموا الموتَ الزؤامَ ولا اشتكوا *** نصــباً بيومِ بالردى مقرونِ

إنهم أناس أفذاذ شجعان لا يقف أمامهم عدو إلا أهلكوه ، وإن طعانهم لأعدائهم لم تسبره المسابير كناية عن عمقها وقوتها في أجساد أعدائهم ، ثم يستعمل أسلوب المواراة في المدح لتصوير تمسّكهم الشديد باللواء ، وقبضهم بقوة عليه عند النزال ، وهذه دلالة ترافق قوة إيمانهم وتمسكهم بما يؤمنون به في قلوبهم وعقولهم ، فاللواء يعني المبدأ والاعتقاد بالنسبة إليهم ، وشبَّه الشاعر قبضهم للوائهم كقبض الضنين على نقوده وحرصه عليها كل الحرص ، ثمَّ يذكر ما فعلوه ببني أمية يوم الطف إذ ساروا بخيولهم وسط بحور من دماء بني أمية دلالة على عظم قتلهم فيهم وهم ساروا بظهور خيولهم لفرط ما أراقوا من دم أعدائهم حتى ظنَّ بأنهم ساروا بسفن وهو تصوير فيه مبالغة لطيفة ، وهم فوق ذلك لم يشتكوا تعباً ولم يسهموا الموت الزؤام في ذلك اليوم المقرون بالردى لا محالة.

ثمَّ يتحول الشاعر إلى وصف مقتلهم بقوله[14]:

حتى إذا التقمتهمُ حوتُ القضا ***  وهي الأماني دون خيرِ أمينِ

ففي هذا البيت تشخيص جميل للقضاء المحتوم إذ جعله حوت يلتقمهم ، ولكن هذا الموت - على بشاعته - كان أمنية لهم فهم يفدون به أمين الله على خلقه كناية عن الحسين ، فكل شيء يهون في مقابل ذلك، ثم يقول:

نبذتهمُ الهيجاءُ فوق تلاعِها *** كالنونِ ينبذُ بالعرى ذا النونِ

فتخالُ كلاً ثمَّ يونس فوقه *** شجرُ القنا بدلاً عن اليقطينِ

وهنا يستعمل الشاعر الموروث الديني ليوظفه في تشبيهاته ليخرج لنا صورة جديدة ذات أبعاد متعددة تثير خيال المتلقي وتجلب انتباهه ، فما دام قد ذكر حوت القضا ذكر معه النون وقد التقم يونس في قصته المشهورة التي أوردها القرآن الكريم[15] فلما نبذه الحوت في العراء نبذت الهيجاء أصحاب الحسين فوق هضباتها ، والالتقاء بين الصورتين (النبذ) ثم يأتي تشبيه الشاعر كالنون (أي الحوت) الذي نبذ بالعراء النبي يونس الذي كنى عنه (ذي النون) ، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد من المقاربة الصورية الموضوعية بين الطرفين فعقد الشاعر تشبيهاً جديداً باستعمال الفعل (تخال) المسند إلى الضمير المخاطب أي المتلقي لاتخاذ وضع المشاركة في الصورة التي رسمها ، فيونس عندما نبذه الحوت في العراء أنبت الله جل وعلا شجرة من يقطين تظلل عليه من حر ومن برد لكن هذا المشهد الرحيم الودود لم يكن كذلك مع أصحاب الحسين فعندما صرعوا فوق ثرى الطف لم يظللهم شجر اليقطين وإنما ظللهم شجر القنا والرماح العواسل.

ثمَّ يخاطب الشاعر المتلقي بقوله[16]:

خُذْ في ثنائهمُ الجميلَ مقرِّضا *** فالقومُ قد جَلوا عن التأبينِ

هـمْ أفضلُ الشهداء والقتلى الأولى *** مدحوا بوحيٍ في الكتابِ مبيـنِ

 فالشاعر يرى أن الحسين وأصحابه قد جلوا عن التأبين ويجب علينا مدحهم والثناء عليهم، فهم أفضل الشهداء والقتلى الأولى كيف لا وقد مدحهم الله تعالى في كتابه المبين..

إن هذا التمهيد لعقد مقاربات صورية موضوعية كان أسلوباً واضحاً في طفياته ، فنراه يقول في الحسين وأصحابه (عليهم السلام) في واقعة الطف[17]:

لي حزنُ يعقوبَ لا ينفك ذا لهبِ *** لصرعٍ نصبَ عيني لا الدمِ الكذبِ

وغلمة من بني عدنان أرسلهــا *** للجدِّ والدها في الحربِ لا اللعبِ

فانطلق منذ البداية لأخذ عيّنات موضوعية من قصة يوسف وربطها بما جرى في واقعة الطف ، فصرح في البيت الأول أنَّ له حزناً كحزن يعقوب على ولده يوسف ولكن الاختلاف بينه وبين حزن يعقوب هو أن حزنه على صرعى حقيقيين ولم تكن الدماء التي سالت منهم دماء كاذبة كالتي اصطنعها إخوة يوسف عندما جاؤوا على قميصه بدم كذب وأروه لأبيهم فحزن على يوسف على الرغم من علمه بأن يوسف حي يرزق ، ثم بدأ في البيت الثاني بـ (وغلمة من بني عدنان...) إشارة إلى ريعان شباب هؤلاء الفتية وقد أرسلهم أبوهم إلى الحرب لا اللعب ، وهذا الحدث يقابل إرسال يعقوب ولده يوسف مع إخوته ليرتع ويلعب مثلما أشارت إلى ذلك الآية القرآنية المباركة[18]، ثمَّ يقول:

ومعشرٌ راودتهمْ عن نفوسِهــمُ *** بيضُ الظُبا غيرُ بيضِ الخرِّدِ العُربِ

فهو يأخذ وينتقي من قصة يوسف مرة أخرى موقفاً آخر يقابله بموقف أصحاب الحسين ، فقابل بين مراودة (زليخا) امرأة العزيز ليوسف وكادت أن تهم به ويهم بها ومراودة بيض الظبا لنفوسهم ثم يقول:

فأنعموا بنفوسٍ لا عديلَ لهــا *** حتى أسيلتْ على الخرصانِ والقُضُبِ

فانظرْ لأجسادِهم قد قدَّ من قُبلٍ *** أعضاؤها لا إلى القمصانِ والأهُـبِ

إن أصحاب الحسين لم يقد قميصهم من دبرٍ بل من قبل إشارة أو كناية عن شجاعتهم وإقدامهم وعدم مهابتهم للعدو فضلاً عن مقابلة الموت وجهاً لوجه ، أما في حالة يوسف فكان قدُّ القميصِ فيه خلاف على أثره كانت براءة يوسف إذ قد قميصه من دبر ، فتلحظ بهذه المقاربة البون الشاسع بين قصة يوسف وأحداثها وما جرى على الحسين وأصحابه النجباء، ويعقب الشاعر هذه المقاربة الموضوعية بمقاربة أخرى لطيفة، وهو قوله:

كلٌ رأى ضرَّ أيوبٍ فما ركضـتْ *** رجلٌ له غيرُ حوضِ الكوثرِ العذبِ

قامتْ لهم رحمة الباري تمرِّضُهم *** جرحى فلم تدعهم للحلفِ والغضبِ

إن هذه المقاربات تحتاج إلى قارئ له اطلاع غير قليل على التاريخ والقصص الديني حتى يتمكن من فهم مقصد الشاعر وإلا كانت صورة يلفها الغموض والإبهام وتثير علامات التساؤل أكثر ما تثير في نفسه الإعجاب ، ولعل هذه السمة كانت بارزة عند شاعرنا الشيخ صالح الكواز الحلي وقد نجح بشكل كبير في توظيف الموروث في شعره لا على سبيل التضمين والاقتباس فحسب بل على إعادة بناء ذلك الموروث بصورة أملتها عليه تجربته الشعرية وإبداعه الخاص.

[1] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي: 17

[2] تنظر قصة ذلك في سورة القصص: 25.

[3] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي: 31.

[4] الأعراف: 143.

[5] النساء: 158، ومريم: 57.

[6] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي: 8.

[7] م.ن: 31.

[8] ينظر أخبار ذلك في: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 31 – 35.

[9] ينظر مناقب آل أبي طالب: 1/ 254 ــ 255.

[10] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي: 43.

[11] ينظر هذه الأحاديث وغيرها في ينابيع المودة:1/11، 455، 462، 2/38.

[12] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي: 44.

[13] م.ن: 47.

[14] م.ن.

[15] الصافات: 139 - 148.

[16] ديوان الشيخ صالح الكواز الحلي: 47.

[17] م.ن: 24.

[18] يوسف:12.