المقالات
قسم الفكر الاسلامي
حرمة كتمان العلم
قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ))-(البقرة 159) ينبغي أن نقف عند هذه الآية الكريمة
وقفة عظيمة , فربنا تعالى حذر من كتمان العلم , وتوعد على ذلك ,
ولعن من فعل ذلك واللعن في الأصل هو الطرد والإبعاد الممزوج بالغضب
والاستياء. فاللعن الإلهي إذن إبعاد الإنسان عن رحمة الله، فالله
سبحانه وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم العلم،
وكلمة (اللاعنون) لها معنى واسع لا يقتصر على الملائكة والمؤمنين،
بل يشمل كل الموجودات0
ودلت
الآية أيضاً على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، وعموم الآية يدل:
على أن كل من كتم شيئا من علوم الدين، فان الوعيد يلزمه، وقال ربنا:
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ الله
مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللهِ
مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ)(آل عمران-18) فالمراد بالبخل هنا كتمان العلم والبخل في
كلام العرب منع السائل من فضل ما لديه وإمساك المقتنيات وفي الشرع
البخل عبارة عن إمساك الواجب ومنعه, ومعنى (سيطوقون ما بخلوا به)
قال أبو مسلم، المراد أنهم يطوّقون طوقاً من النار جزاء هذا
الكتمان(تفسير الالوسي ج3 ص339) يوم القيامة» أي: يحملون وزرَه
وإثمهُ كقوله تعالى: «(وهم يحملون أوزارَهم على ظهورهم)»(الأنعام
-31).
وكذلك
قول ربنا: (الذين يبخلونَ ويأمرون الناس بالبخل ويكتمُوُن ما آتاهم
الله من فضله)(النساء -37) أي الذين لم يبينوا ما عندهم من العلوم
التي يستفيد منها الناس ويبخلون بها سيطوقهم ربنا بطوق من نار يوم
القيامة أجارنا الله.
وهذا
تهديد ووعيد شديد فيجب على العالم وكل من لديه علم ان يبينه
ولايكتمه.
كتمان العلم في الروايات:
حملت
الأحاديث بشدّة أيضاً على كاتمي العلم، وهنا سأجمع كل الصور التي
يكون عليها كاتم العلم. فروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه قال: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ فَكَتَمَ أُلْجِمَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَام مِنْ نَار) (مسند احمد ج15
ص296).
أنه
قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : (لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم
ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها)(بحار الانوار ج36 ص) وروي عنه ـ
صلى الله عليه واله وسلم ـ أنه قال: (لا تعلّقوا الدُّرّ في أعناق
الخنازير) يريد تعليم الفقه من ليس من أهله(تفسير اللباب ج2
ص226).
وسُئل
الامام أمير المؤمنين(عليه السلام):«مَنْ شَرُّ خَلقِ اللّهِ بَعدَ
إبلِيسَ وَفِرعَونَ؟ قَالَ: العُلَمَاءُ إذا فَسَدوا، هُم
المُظهِرُونَ لِلأبَاطِيلِ، الكَاتِمُونَ للحَقَائِقِ، وَفِيهِم
قَالَ اللهُ عَزّ وجَلَّ: (اُولئك يَلعَنهُم الله ويَلعَنُهُم
اللاعِنُونَ)(بحار الانوار ج2 ص89).
وقال
الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): قرأت في كتاب علي (عليه
السلام): إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على
العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل (ميزان
الحكمة ج3 ص337).
ومن
الواضح ان هذه الاحاديث تشمل كل العلوم المفيدة للإنسان في كل
المجالات، ويؤكد ذلك قوله (صلى الله عليه واله): ((من علم شيئا فلا
يكتمه)) (معرفة الصحابة ج9 ص126)
وعنه
(صلى الله عليه وآله): أيما رجل آتاه الله علما فكتمه وهو يعلمه،
لقي الله عز وجل يوم القيامة ملجما بلجام من نار (احاديث في الدين
والثقافة ج1 ص253).
وكذلك
قول الإمام علي (عليه السلام): من كتم علما فكأنه جاهل (غرر الحكم
ودررالكلم ج1 ص4). – وعنه (عليه السلام): إن العالم الكاتم علمه
يبعث أنتن أهل القيامة ريحا، يلعنه كل دابة حتى دواب الأرض الصغار
(مشكاة الانوار ج1 ص103). الا ترون كم هي مفجعة هذه الصور. وهنا
يتبين لنا ان نشر الحقائق التي يحتاجها النّاس لا يتوقف على
السّؤال، خاصة وأن الاحاديث تتحدث عن تبيين الحقائق، وهذا كذلك يرد
على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام الانحرافات بحجّة عدم وجود
سائل يسألهم ويطرح عليهم سؤالا بشأن تلك الانحرافات إمّا عن الخوف
من الناس، وإمّا بدافع المصلحة الشخصية مثل منافع دنيوية مالاً أو
رئاسة، وأيّاً كان السبب فهو دليل على ضعف الإِيمان وانحطاط
الشخصية.
مفاسد كتمان العلم:
كتمان
العلم من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مرّ
التاريخ، وكان لها دوماً آثار سيئة عميقة استمرت قروناً واعصاراً.
ويتحمل تبعة هذه المساوئ دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك
العلوم ويكتمونها.
ولعل
القرآن لم يهدد ويذمّ فئة كما هدّد وذم هذه الفئة الكاتمة للعلم.
ولم لا؟ فإن عمل هؤلاء يجرّ أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال
والفساد، كما أن نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح،
والناس تميل للحقائق بفطرتها، والكتمان عنها يعني صدّ الناس عن طريق
تكاملها الفطري المرسوم لها فيشمل الكتمان كل علم من العلوم يكون
سببا في هداية الناس والكتمان مصيبة، وكبيرة من الكبائر، نعوذ بالله
من ذلك، فكتمان الحق جبن، وكتمان الحق انهزام في الشخصية، وكتمان
الحق فشل، وعندما تصبح هذه الظاهرة عند العالِم تجعل الأمة لا
تصدقه، ولا تثق به، ولا تنضوي تحت لوائه، ولا تذهب معه، ولا تشيد
به، وتصبح الأمة بعيدة كل البعد عنه، كيف يكتم وعنده جوهر، وعنده
وثيقة، وعنده نصوص في صدره؟!
التوبة من هذا الذنب:
التوبة:
عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مغَفِرَةٍ للنَّاِس عَلَى ظُلمِهِم)(الرعد
6).
وكثير
من آيات التوبة فينبغي أن نقف عند هذه الايات الكريمات وقفة عظيمة,
فربنا حذر من كتمان العلم, وتوعد على ذلك, ولعن من فعل ذلك، ثم بين
أن لا سلامة من هذا الوعيد، وهذا اللعن، إلا بالتوبة والإصلاح
والبيان؛ التوبة مما مضى: من التقصير والذنوب, وإصلاح للأوضاع التي
يستطيع إصلاحها من نفسه، وبنفسه، وبيان لما لديه من العلم الذي قد
يقال: إنه كتمه، أو فعلا قد كتمه لخطأ عاجل، أو تأويل باطل، ثم من
الله عليه بالهدى، فلا توبة إلا بهذا البيان، ولا نجاة إلا بهذه
التوبة، وهي تشتمل على الندم على ما مضى، من التقصير واقتراف الذنب،
وإقلاع وترك لهذا الذنب، خائفا من ربه عز وجل، حذرا من عقابه وكذلك
العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية والبيان والاظهار لأنه قد يتوب
ولا يعلم الناس توبته، فإذا أظهر ذلك وبينه للناس، برئت ذمته, وصحت
توبته.
نشرت في الولاية العدد 87
اكثر قراءة