المقالات
القسم الاجتماعي
رأي سيكولوجي في تصنيف الأمم إلى غبية وذكية
يشتد تباين مستويات العطاء الفكري والذهني بين شعوب الأمم والمجتمعات الإنسانية في كافة بقاع الكرة الأرضية إلى درجة مريعة من التفاوت، مما يقسمها هذه المجتمعات في سياق فعاليتها العقلية العامة لإيجاد الحلول في كافة المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والفكرية، والفلسفية وفي مجال التقدم العلمي والتقني والمعلوماتية ... الخ " إلى مجتمعات حضارية متقدمة، وأخرى أقل تقدما وثالثة متخلفة وحتى إلى مجتمعات بدائية.
وقد تعمقت هذه الهوة في مستويات تطور المجتمعات الدولية ونموها عبر قرون وزادت شراسة دون حلول، على الرغم من إن الكثير من المجتمعات المتخلفة تمتلك من الناحية الأساسية مقومات النهضة الاقتصادية ـ الاجتماعية، من موارد طبيعية وظروف بيئية مواتية وبنية سكانية فتية وامتلاك للمال الطائل وللكادر في مختلف المجالات وغيرها من العوامل المصاحبة، إلا إنها تعيش دوامة التخلف وتعيد إنتاجه في كل تفاصيل الحياة العامة ومظاهرها على المستويين الفردي والمجتمعي. بل أن الكثير من المجتمعات الدولية اليوم تشهد نوبات مضاعفة في العودة للتخلف، كما أن الكثير منها تدهورت ظروف الحياة فيها قياسا بفترات نسبية سابقة أفضل كانت مما عليه اليوم " ونموذج المجتمعات العربية والإسلامية والكثير من الدول الأخرى شاهد على ذلك " !!!.
ونظرا للاستعصاء المزمن في عدم الانتقال من حالة التخلف إلى التقدم وتدهور المقدرة على مسايرة الركب الحضاري والإمساك بزمام التقدم، وما صاحب ذلك من تعمق وتجذر لحالة الإحباط النفسي الفردي والمجتمعي العام، تنتعش اليوم وتعود إلى ساحة الفكر السيكولوجي الكثير من الآراء والنظريات القديمة ـ الجديدة لتفسر حالة الركود والتخلف والعودة إلى الوراء. ومن ابرز ما يطفح من أراء واتجاهات سيكولوجية ـ إيديولوجية على مسرح الصراعات الاجتماعية هو العودة إلى مفهوم الذكاء الفطري في تمايز الشعوب والأمم المختلفة وإدعاء إن ما موجود بين الأمم من تفاوت هو واقع موضوعي لأسباب ذاتية تكوينية ولا يمكن تغيره !!!.
وتستند نظرية الذكاء الفطري في تفسير الفروق الفردية العقلية والفكرية بين الأفراد والأمم إلى مفهوم مفاده إن الذكاء قدرة فطرية عقلية عامة موجودة لدى كل فرد منذ الولادة بكمية محدودة تختلف باختلاف الأفراد ولا تتأثر بالعوامل البيئية المحيطة إلا من حيث كون هذا العوامل هي الوسط الذي تعبر فيه تلك القدرة الكامنة عن نفسها. وتم الاستناد في ذلك إلى نظرية العاملين: العامل العام والعامل الخاص التي وضعها عالم النفس البريطاني سبيرمن (1863 ـ 1944). والعامل العام عند سبيرمن صفة عقلية مشتركة بين جميع القدرات العقلية التي افترض وجودها عند الشخص. أما العامل الخاص فهو العامل الذي يقتصر على هذه العملية العقلية أو تلك. أي إن العامل العام هو القدرة العقلية التي عن طريقها يستطيع الإنسان أن يدرك القدرات العقلية الأخرى التي تعبر عن نفسها على هيئة عامل خاص وأن يدرك أيضا العلاقات الرئيسية الموجودة بين الأشياء والظواهر البيئية. ولابد من توافرها لحدوث القدرات العقلية الخاصة التي تختلف فيما بينها بدرجة تشبعها بالعامل العام. وكلما ازداد تشبع القدرة الخاصة بالعامل العام ازداد اثر هذا الأخير في تلك القدرة. وقد تعرضت نظرية سبيرمن إلى مزيدا من الإضافة والتطوير على أيدي باحثين آخرين في مقدمتهم وودرو وثيرنستون، حيث أضافوا عوامل أخرى فطرية تقع وسطا بين العامل العام الوحيد والعوامل الخاصة الكثيرة العدد: أي إنها اقل سعة من العامل العام وأكثر سعة من العوامل الخاصة، وأطلقوا عليها اسم العوامل الطائفية: أشهرها القدرة اللغوية والقدرة الميكانيكية والقدرة العددية وغيرها !!!.
والذكاء من وجهة النظر هذه قدرة فكرية وعقلية موروثة بيولوجيا بمقدار محدد يختلف باختلاف الأفراد. وقد ارتبط بنظرية الذكاء نشوء اختبارات ومقاييس الذكاء التي تعود بنشأتها الأولى وشيوع استخدامها إلى الطبيب الفرنسي الفرد بينه ( 1856 ـ 1911 ) الذي كان أستاذا في جامعة السوربون، والذي حاول دراسة أسباب التخلف الفكري لدى بعض تلاميذ مدارس باريس الابتدائية مع زميله سيمون، من خلال افتراض سيكولوجي مفاده إن تخلف هؤلاء التلاميذ من الناحية الفكرية ـ الذهنية يعود إلى ضعف في " قدرتهم على التعلم ". وبعد ذلك تم إنتاج وإعداد كم هائل من اختبارات الذكاء، الفردية والجماعية، والخاصة بمختلف المراحل الدراسية ولمختلف المجالات، وقد تأثرت البلاد العربية بهذه الحركة وخاصة مصر ودول عربية أخرى، وتم إعداد الكثير من الاختبارات الخاصة بالبيئة العربية على نفس المنوال، عدا حركة الترجمة للاختبارات الأجنبية !!!!.
تجاوزت نظرية الذكاء الفطري وما ارتبط بها من مقاييس حدود مهمتها التشخيصية وأغراضها التربوية والنفسية إلى ما هو ابعد من ذلك حتى باتت أداة لعرقلة التقدم الاجتماعي والاقتصادي والفكري عبر تصنيف الأمم والشعوب إلى أمم غبية وأمم متوسطة الذكاء وأمم عالية الذكاء، وتجاوز ذلك إلى المهن المختلفة، فالطبيب أذكى من المعلم، والمعلم اذكي من ذوي الأعمال الحرة، ثم امتد إلى لون الأمم، فالأبيض اشد ذكاء من الأسود، وذوي البشرة السمراء أو الحنطية اقل ذكاء من الأبيض واشد ذكاء من الأسود. ومن دائرة الصراع القريب علينا نلتمس شرخا واسعا لتفتيت الوحدة المجتمعية على أسس مرضية، قوامها الادعاء بتفاوت الذكاء بين الطوائف الدينية والمذهبية، فالشيعي اشد ذكاء من السني أو العكس، وكذلك بين أعراق المجتمع الواحد، فالكردي أكثر ذكاء من العربي بعد إن تحسنت ظروف عيشهم نسبيا في البقعة العراقية، بعد إن كان لوقت قريب يتمتع فيه العربي بذكاء ارفع عن نظيره الكردي أو الأقليات الأخرى، وجميعها ادعاءات تعكسها المتفاوتات في ظروف العيش على شكل مواقف ذهنية متحجرة اتجاه الآخر !!!.
وقد استحوذت فكرة التفاوت بين الأمم على أساس الذكاء الفطري على الكثير من الباحثين والأساتذة الجامعين في مطلع أربعينيات القرن الماضي والى اليوم، فقد كتب احد ألأساتذة البارزين في علم النفس الفسيولوجي " مكداول. جي.اس " في كتابه الموسوم " سيكولوجيا العقل: مقدمة بيولوجية لعلم النفس : والصادر في إحدى طبعاته عام 1946 في جامعة لندن في مطلع الأربعينيات ما نصه " لقد أصبح واضحا إن الأمم كالأفراد تتطور ببطء مبتعدة عن الحالة البربرية القديمة لتصل إلى مستويات من الرقي لم يتوصل إليها الإنسان البدائي. هذه الأمم تسير بمراحل مختلفة: بعضها يتخلف عن الركب وآخر يحتل مركز الصدارة أو القيادة ويصبح الطليعة الإنسانية القائدة الرائدة. وقد أدى إغفال هذه الناحية بالديمقراطية إلى أن تواجه متاعب كثيرة نجمت عن الإخفاق في فهم العامل الوراثي الذي يميز بعض الأمم عن بعض آخر. إن اللامساواة بين البشر تتجلى بأوضح أشكالها في المجال السيكولوجي. وليس من قبيل الصدفة أن يولد بعض الناس سقاة أو حاطبين ويولد آخرون في أعلى الدرجات الاجتماعية ". بل أن خرافة انقسام الأجناس البشرية إلى راقية وواطئة على أساس بيولوجي فطري ترجع إلى أواخر القرن الثامن عشر نتيجة أبحاث العالم الألماني " مينرز " الذي كان أستاذا في جامعة " كوتنكن " عندما زعم أن الجنس الأبيض مفضل على الأجناس الملونة من ناحية مقوماته البيولوجية !!!.
وإذا اقتنعنا بحيثيات هذا التفسير ببساطة واستخدمناه كمقياس للوقوف على أسباب فشل أو نجاح الأمم، نستطيع أن نوعز أسباب تعثر التجارب الديمقراطية وعدم قبولها في بلداننا العربية والإقليمية وفي مناطق أخرى من العالم إلى تدني مستويات ذكائها قياسا بأمم أخرى تتمتع بدرجات عالية من الذكاء، إلا إن الأمر ليست كذلك. فأوربا القرون الوسطى وما قبلها كانت متخلفة بكل المقاييس ثم نهضت. فهل يجوز لنا الاستنتاج إن أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان المتقدمة اليوم كان ذكائها الفطري الموروث متدني سابقا ثم تحسنت وراثتها البيولوجية لاحقا مما سبب نهضتها، أم إن ظروف الحياة العامة تحسنت وبدورها أثرت في الأداء العقلي وحسنته، ثم تفاعلا كل الجانبين العقلي والبيئي في عملية تأثير متبادلة بدون انقطاع. أن الاستنتاج الأول هو مجافي للحقائق العلمية للوراثة جملة وتفصيلا، أما الاستنتاج الثاني فيحمل الكثير من المصداقية بشهادة الكثير من الشعوب المتخلفة سابقا وفي مختلف قارات العالم، والتي انطلقت لاحقا في بناء حضارتها اليوم !!!.
ومن المناسب هنا أن نشير إلى احدث الدراسات والأبحاث العالمية التي نشرت في نوفمبر/ 2013، والتي تحدثنا عن متوسط نسب ذكاء الشعوب المختلفة، والتي نشرتها شبكة " غود نت " والمعنية بترتيب دول العالم وفقا لمعدلات الذكاء، وذلك باستخدام المقياس الشهير " ألآي كيو "، وهو ما يعرف بمتوسط نسبة الذكاء، واستنادا إلى المقياس فأن الشخص الذي يحصل على 100 درجة هو شخص ذكي، وكلما ارتفعت النسبة أصبح قريبا من درجة العبقرية، فقد حصل العالم الشهير أينشتاين على 200 درجة.
استنادا إلى الدراسة المذكورة أعلاه والتي تجرى كل عشرة سنوات، والتي تكشف عن متوسط نسبة ذكاء شعوب العالم، فقد أكدت عن تصدر الشعب العراقي قائمة البلدان العربية بمتوسط نسبة ذكاء 87 درجة، مما جعل العراق يحتل المرتبة 21 عالميا. ثم جاءت الكويت في المركز الثاني عربيا ب 86 درجة، ثم اليمن 85 درجة، وتقاربت الإمارات والأردن والسعودية والمغرب في الترتيب، وهو 23 ـ و 24 عالميا، والرابع عربيا بمتوسط ذكاء 84 درجة بعد العراق والكويت واليمن، فيما حصلت الجزائر والبحرين وليبيا وعمان وسوريا وتونس المرتبة الخامسة عربيا بالدرجة 83، مما جعل الدول المشار إليها تقع في المركز ال 25عالميا. وقد وضع الاختبار العالمي كل من لبنان ومصر في ترتيب متأخر نسبيا، فقد حصل اللبناني على 82 درجة، والمصري 81 درجة، فيما حصل القطري على 78 درجة والسوداني على 71 مما جعلها في مؤخرة الترتيب على المستوى العربي !!!.
أما على الصعيد العالمي فقد احتلت سنغافورا مركز الصدارة بمعدل ذكاء 108 درجة، فيما جاءت كوريا الجنوبية في المرتبة الثانية بدرجة 106، ثم اليابان 105 درجة، وفي المركز الرابع كان ظهور أول دولة أوربية وغربية وهي ايطاليا التي حصل مواطنيها على 102 درجة بمقياس الذكاء العالمي " آي كيو "، ثم أيسلندا، ومنغوليا، وسويسرا، والنمسا، والصين والتي يتوافق المعدل بها مع المستوى العالمي الجيد، وهو 100 درجة.
أما ما يثيرنا في هذا المقام ويستدعي منا المزيد من التفسير هو تراجع الدول العظمى على مقياس الذكاء العالمي، ففي الوقت الذي تحتل فيه منغوليا على سبيل المثال المرتبة السادسة عالميا، فيما يتراجع ترتيب الولايات المتحدة مقارنة مع كثير من دول العالم، حيث يبلغ المتوسط في الولايات المتحدة 98 درجة، وهو اقل من المعدل العالمي، ويشارك أمريكا في درجة الذكاء ذاتها كل من اسبانيا وفرنسا وألمانيا، في حين يبلغ متوسط ذكاء بريطانيا 100 درجة، أما روسيا فحصلت على 97 درجة. أما لبعض من الدول الإفريقية فقد تموضعت في أمكنة التخلف المتدني، فقد حصلت كل من الكاميرون والغابون وموزنبيق بمتوسط 64 درجة، فيما احتلت غينيا الاستوائية المركز الأخير وهو 59 درجة !!!.
هذه النتائج الخاصة بنسب بذكاء الأمم " حسب مقياس الآي كيو " لا تضعنا في صورة الترابط الوثيق بين الذكاء ونهضة البلدان الحضارية في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ففي الوقت الذي تتبوأ فيه دول مثل سنغافورا المركز الأول عالميا وتتراجع فيه أمريكا وغيرها من الدول الأوربية ونحن نعرف حجم التفاوت في تقدم تلك البلدان. وكذلك من حقنا إن نعيد قراءة وتفسير بعض نتائج الذكاء المتدني وتخلف البلدان رغم المطابقة الشكلية بين الذكاء وأوضاعها الحالية ونتساءل هل هذا التطابق موروث وباقي أم لأسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية مؤقتة تفسر ذلك. كما نتساءل أيضا وعلى سبيل المثال، إذا كان العراق في ترتيبه الأول عربيا، فأين دور الذكاء في حل معضلاته في الأمن والاستقرار والانطلاق " والذكاء في ابسط مفاهيمه هنا هو القدرة على المرونة والتكيف وسرعة العثور على حل للمشكلات ". ونستغرب أيضا لبعض من الدول العربية كلبنان ومصر وما فيها من حراك ثقافي وسياسي وفكري أن تحتل مكانة متدنية !!!. المشكلة هنا ليست في فيما تكشف عنه اختبارات الذكاء بنتائجها المتناقضة لواقع الحال ميدانيا، بل المشكلة في تفسير ما هو الذكاء وما هي نشأته وكيف لنا أن نفسر ذلك، وعندها نستطيع من السهل أن نقسم الأمم إلى نسب ذكاء أو خرائط ذكائية ؟؟؟.
من المشكلات التي تواجهنا في الاستدلال على الذكاء هو كونه تكوينا افتراضيا وليس له وجود مادي ملموس يمتلكه الشخص ويمكن ملاحظته بصورة مباشرة، كما هو الحال مثل: القلب، والمخ، وغدد الجسم المختلفة، وحاسة البصر وغيرها مما يمكن قياسه مباشرة. ويتشابه هذا مع الكثير من مصطلحات علم النفس مثل: الشخصية، والنباهة والفطنة والحذق، والعقل وغيرها من الاصطلاحات النفسية التي ليس لها وجود مادي ملموس في جسم الإنسان، بل وجودها افتراضي ونستدل عليه من خلال ما يدل عليها من أنشطه وعمليات وآثار ونتائج. والمشكلة في مفهوم الذكاء تكمن في خطورة استخدامه على المستوى العملي في تصنيف الأمم والأفراد وآثار ذلك السياسية والاجتماعية والثقافية !!!.
ومن هذا التعقيد والصعوبات نشأت الكثير من المفاهيم التي تفسر الذكاء، كالمفهوم اللغوي، والفلسفي ،والبيولوجي، والفسيولوجي العصبي، والاجتماعي، وكذلك المفهوم النفسي الذي يعنيننا بشكل خاص في هذا المقام. فقد ظهرت في نطاق علم النفس تعريفات عديدة للذكاء على أساس العلاقة الوظيفية بين الذكاء وميادين السلوك المختلفة، مثل: القدرة على التعلم، والقدرة على التفكير المجرد، وقدرة الفرد على حل المشكلات التي تواجهه، والقدرة على تكوين علاقات شخصية واجتماعية سليمة وعلى التوافق الاجتماعي والنفسي. هذا بالإضافة إلى التعريفات التي تربط بين الذكاء وبين مجموعة من العمليات العقلية التي يظهر فيها السلوك المتصف بالذكاء. وهنا نسوق بعض من هذه التعريفات التي تعكس هذه المجالات باختصار شديد دون الخوض في تفاصيلها:
الذكاء: هو " القدرة على التعلم " " كولفن ". ويعرفه " وودرو " بأنه " القدرة على اكتساب الخبرات ". ويعرفه " ديربورن " بأنه " القدرة على اكتساب الخبرة والإفادة منها ". وكذلك يعرفه " ادواردز " بأنه " القدرة على تغير الأداء ". ويعرف " لويس تيرمان " الذكاء بأنه " القدرة على التفكير المجرد ". وعرفه كل من " كوجر " و " كوهلر " من أنه " القدرة على إدراك العلاقات". وما عرفه "الفرد بينه " من أنه " القدرة على الفهم ". أما " ميومان " فقد عرفه بأنه " الاستعداد العام للتفكير الاستدلالي والابتكاري والإبداعي ".
ومن دائرة التعريفات التي ترى الذكاء هو قدرة الفرد على حل المشكلات وعلى تكوين علاقات ناجحة مع غيره وعلى التوافق النفسي والاجتماعي، نسوق بعض الأمثلة: حيث عرفه عالم النفس البولندي " ستيفان سزمان " بأنه " مستوى الخبرة العقلية التي يصل اليها الفرد نتيجة لتدريب العقل، مقرونة بالقدرة على استخدام الخبرة عند مواجهة مواقف ومشاكل جديدة". ويعرفه " هربرت سبنسر " بأنه " قدرة الفرد على أن يكيف سلوكه وفقا للوسط الذي يعيش فيه ". ويعرفه " روجي براون " بأنه " القدرة على التوافق، وعلى اكتساب وسائل هذا التوافق ".
أما من التعريفات التي ترى في الذكاء مجموعة من العناصر والقدرات والعمليات العقلية هو تفسير " لويس تيرمان " الذي ربط فيه بين تفوق القرد في الذكاء وبين تفوق درجاته في اختبارات الذكاء وربط فيه بالتالي بين مكونات الذكاء وبين ما تقيسه اختباراته من عمليات عقلية عليا، كالتحليل، والابتكار، والتفسير المنطقي، والقدرة الرياضية، وإتقان اللغة، والاستبصار، والقدرة على التعلم، وقدرات الذاكرة، والقدرة الحركية. أما " ثورندياك " فقد عرفه بأنه " مجموعة من القدرات الخاصة المستقلة، وأعتبر الذكاء هو ما تقيسه الاختبارات الأربعة التي وضعها لقياس الذكاء بعد تحليله لبعض صفات الذكاء. وهذه الاختبارات هي: اختبار التكملة، واختبار الحساب، واختبار الحساب، واختبار اللغة، واختبار فهم التعليمات. وهناك تعريفات كثيرة ذات الصلة.
نستشف من مجموعة التعريفات وباختلاف المجالات التي يظهر فيها الذكاء أن هناك شرطا مسبقا لحيازته أو وجوده بمقدار ما سلفا لتحديد مستوى انجاز الفرد، دون الإشارة إلى إمكانية خلقه بمقدار من خلال الثقافة والتربية والظروف العامة " قد يكون باستثناء التعريف الخاص بالعالم البولندي " ستيفان سزمان " الذي أكد على دور تدريب العقل واكتساب الخبرة والمقدرة على استخدامها عند مواجهة المشكلات. كما نرى أن هناك ثقلا نوعيا للاختبارات والمقاييس في الكشف عنه باعتباره موروثا ينتقل من الآباء والأجداد إلى الأبناء. ولعلنا هنا من باب التأكيد إن الاختبارات والمقاييس لا تقيس القدرة الوراثية الخام وإنما تقيس مدى تشبع الفرد المفحوص بالعناصر البيئية الثقافية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والمهارات المختلفة التي احتوتها فقرات الاختبار، وبالتالي نحن أمام صعوبة جدية في تحديد وفرز ما هو وراثي وما هو بيئي مكتسب. ويمكننا هنا أن نسوق بعض الملاحظات الانتقادية حول اختبارات الذكاء:
تقيس اختبارات الذكاء المستوى الثقافي والفكري والمهارات المختلفة التي بلغها الفرد عند زمن إجراء الاختبار، ولا تأخذ بنظر الاعتبار إمكانية تطوره اللاحق إذا توفرت الظروف الاجتماعية والتربوية لذلك. يصل كثير من الأفراد إلى إجابات صحيحة قد تغاير المطلوب في إجابات الاختبار مما يؤثر على انخفاض درجته في الاختبار. هناك الكثير من الدوافع الفردية التي تجعل الفرد ينهمك في حل مشكلة طبيعية في سياق الحياة دون الاهتمام بفقرات الاختبار المصممة اصطناعيا، مما لا تجعل الفرد يبذل الجهد المطلوب على الاختبار. تهمل الاختبارات الدور الذي تلعبه البيئة الاجتماعية والتربوية المحيطة بالفرد المجيب على الاختبار والتي تسهم بتشكيل حياته العقلية رغم محاولات إنشاء اختبارات خاصة بالبيئات المختلفة، إلا أنها بقيت غير كافية لهذا الغرض. غموض الكثير من أسئلتها وخاصة من ناحية صياغتها اللغوية، كما إن محتواها مستمد من البيئات الراقية ويتعذر على أبناء الأرياف والقرى و الفئات المحرومة والمتدنية ثقافيا الإجابة عليها. تثير الاختبارات الكثير من الجدل والتناقض مع معطيات علوم المخ والدراسات الارتقائية البيولوجية والتشريحية لنشأة الإنسان !!!.
تشير الكثير من الدراسات الاتثروبيولوجية والسيسيولوجية والتشريحية والفسيولوجية إلى أن العقل البشري واحد لدى جميع الناس، فالكل مشتركون فيه على السواء ويسير وفق منطق واحد، وهذا يستند بالأساس إلى إن الدماغ الإنساني يمتلك مقومات تشريحية وفسيولوجية ذات طابع موحد لدى جميع البشر، وان جميع الممارسات الفكرية المتنوعة لدى البشر، سواء في المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة مشتقة جميعها من تداعيات الأفكار الذي يصدق في جميع الحالات. فطرق التفكير، وبناء الفكر الإنساني، وقيامه بوظائفه هي عينها في كل زمان ومكان. فما يتغير إنما هو تجارب الناس وإشكال المجتمعات. وبعبارة أخرى إن إطارات الفكر ووظائفه هي لدى جميع الخلق، وأما مضمون الفكر ومدياته هو وحده الذي يتغير.
والدماغ الإنساني في مختلف المجتمعات ينجز عملياته الفكرية، من تفكير، وأنتباه، وتخيل، وذاكرة ولغة، ولكن الاختلاف في المحتوى البيئي والثقافي ومدى غناه بعوامل التجربة العلمية، فالإنسان في المجتمع المتخلف يفكر بقضية ما، كالموت مثلا أو أخطار البيئة وكوارثها والطبيعة بجمالها ومفاجئاتها السارة والمؤلمة، ولكن قد يجد لها أسباب غير الأسباب التي يجدها الفرد في المجتمعات المتقدمة، ولكن عملية التفكير والياتها الدماغية ـ العقلية هي واحدة عند كلا الاثنين والبيئة الثقافية والمناخ الفكري العام هو الذي يقرر هذا الاختلاف ومستوياته.
والذكاء إذا اعتبرناه عملية عقلية عامة أو أداء للدماغ في ظروفه المحيطة فهو لا يخرج عن هذا المفهوم، وخاصة إذا كانت مقومات البشر الفسيولوجية والتشريحية هي واحدة. فالبشرية كلها أو النوع الإنساني المعاصر هو وحدة بيولوجية كبرى ذات كيان واحد من حيث الأساس وان كل جنس من أجناسها المتعددة هو حصيلة مجرى تاريخي معين استلزمتها ظروف بيئية محلية جغرافية واجتماعية حدثت في حدود إطاره العام لا خارجه أو على حسابه. وأن اختلافات البشر في اللون والجنس والهيئة العامة، من شكل الأنف والعظام ولون العينين وشكل الشفاه قد نشأت بفعل العوامل البيئية وخاصة الجغرافية بالدرجة الأولى ولا علاقة لذلك باختلاف وظائفه العقلية !!!.
ومن هنا يجب النظر إلى الذكاء باعتباره مفهوما مرنا وليست متحجرا وموروثا غير قابل للتعديل، فهو غنيا أو فقيرا بقدر فقر وغناء البيئة التي أنتجته وقررت مدى استخدام الدماغ لقدراته الكامنة كمكون تشريحي وفسيولوجي وتفتح إمكانياته. فمن كانت من الأمم أو الأفراد ذات ذكاء منخفض اليوم لا يعني إنها ستبقى هكذا حتى إذا تحسنت ظروفها الاجتماعية والثقافية والفكرية، والعكس صحيح بالنسبة للأمم والأفراد ذات الذكاء المرتفع عندما تتراجع ظروفها الحياتية. وتبقى اختبارات الذكاء ذات فائدة علمية وميادينية هامة إذا استوفت شروط بنائها وتفنينها وتشبعها بالعوامل الثقافية والتربوية والاجتماعية والمهارات في ضوء البيئة التي سيجرى فيها الاختبار، إلى جانب أدوات أخرى في التشخيص، عندها تقوم بقياس واقع عقل الفرد وأدائه الآن بعيدا عن فلسفة نشأتها الأولى وإغراضها المتحيزة في تصنيف الأمم إلى غبية وذكية !!!
اكثر قراءة