غالبا ما يطلق على هذا العصر الذي نعيش في ظله بانه عصر التقدم والحدث او ما بعد الحداثة، "وما يتبع ذلك من تحرر الإنسان من القيود التي فرضت في الماضي، واجبرته على فعل ما لا يرغب فيه". فضلا عما قدمه التقدم التكنلوجي في مساعدة الانسان على حل الكثير من المشكلات التي كانت تعترضه واصبحت الالة هي الصديق الاكثر حميمية مع الانسان.
لكن الواقع له راي مختلف فالقيود اختلفت لكنها لم تُلغى والمشاكل تعقدت بدل ان تُحل عن طريق التكنلوجيا، وربما كان لها (التقنية) الاثر الكبير في زيادة القيود على الانسان حتى اصبح سجين مخترعاتها. وتطورت اليات التحكم والسيطرة على البشر، فبدل ان يتحكم قلة من الامراء والملوك في مقدرات الشعب اصبح هناك اميرا صغيرا لكل شخص يفرض عليه اسلوب الحياة الذي يجب ان يسر وفق هداه، نزوره صباحا ومساء لنلقي عليه نظرة ونساله عما يجري، وعن ما يجب ان يجري، يعلمنا كيف نلبس وكيف نسير وكيف نكتب وكيف نقص شعرنا.
دهاليز مظلمة من عوالم نظنها مفتوحة لكنا محكمة الاغلاق، من عالم الهاتف الاكبر الى عالم مارك الازرق (الفيس بوك)، ينتقل الانسان الى حيث مثوى الحرية وماتم الانسان الدائم، نفتح هذا العالم الازرق في الصباح وقبل كل شيء لنرى كم وصل عدد الاعجابات للصورة التي نشرناها عن العشاء الذي اقمناه في احد المطاعم الراقية، ونقرا التعليقات لنرى انها متشابهة بل ومتشابهة حد الشك في ان كاتبها كان شخص واحد، لكن عددها لا باس به ويشي بنوع من الاهمية لدى قاطني هذا العالم الازرق، ما يزيد من شعورنا بالاهمية في عالم فقد اهمية القيمة لصالح الشكل والديكور.
اخترعنا الكاميرا لنحولها الى اداة لاعتقال اجمل اللحظات، معايير السعادة تغيرت ورحلات التنزه لا تتعدى التقاط الصور ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى ان الانسان فقد الاحساس باللحظة التي يعيشها لانشغاله بتوثيقها والاحتفاظ بها، ونسي ان ذاكرته خلقت لتتجدد بدل تكديس ذكريات، انها فلسفه الحياة والموت.
في سجون ما بعد الحداثة كل شيء مقيد باحكام، لدرجة اننا لا نرى هذا القيد، وفي سجون ما بعد الحداثة يفرض الواقع (المصنوع من واقع اخر لواقع يراد له ان يكون واقعا)، ان نتكلم لغة موحدة حتى وان كانت مخجلة في اغلب الاحيان، يجب ان تسجل اعجابك بصورة لا تعجبك وان تعلق على الشتائم والتفاهات، وان تغوص في اوحال الفكر السطحي، عليك ان تنسى جديك والا جرفتك العزلة الافتراضية، عليك ان ترى الظلم في مكان عملك ولا تتكلم، عليك ان ترى استاذك في الجامعة يضطهد طلابه ويفرض دكتاتورية اكبر من دكتاتورية هتلر نفسه لكنك لا تستطيع ان تكتب حرفا واحدا عن هذه الدكتاتورية في هذا الفضاء الذي يقال انه مفتوح! لأنك وبكل بساطة ستجد نفسك في قائمة الفاشلين في مؤسستك التعليمية (ومن يعيش الوسط الجامعي يعرف ما نقصد)... تسمع استاذك الجامعي يتحدث عن معايير العلم وسبل تقدم الامم ومتناسيا انه لم يلقي محاضرة علمية واحدة على طلابه لانشغاله بامور تصنف ضمن قواميس المراهقين ومغامراتهم العاطفية، او تقاعسه وفق منطق الساسة واساليبهم في استغلال المنصب والجاه. وامام هذا المشهد تقف صامتا حتى لا تسمع الكلمات المعتادة في مجتمع تعود ان يلجم افواه الطامحين بكلمه (اتركها تسير على ما هي عليه فالوضع سيء وغير قابل للاصلاح).
في سجون ما بعد الحداثة يمنع النشر من خلال النشر نفسه، يغرقونك بكم هائل من المعلومات السطحية حتى يصعب عليك ان تعرض معلومات تعبر عن الواقع، يستغلون الكسل الفكري للجمهور من اجل الهجوم على اصحاب الفكر المستنير، يكفرون اي شخص يخالفهم، لا من خلال فتاوى دينية بل من خلال بدعة التقديمة والتطور، "الموديل احد تلك القتاوى التي عليك اتباعها"، وفي بداية العام عليك انتظار الموضة التي تُحدد عن طريق المسلسلات المدبلجة والاعلانات التجارية.
اعتمد الانسان على العلم من اجل التغلب على التلاعب وتحديد السبل لحل المشكلات، لكن مخرجات العلم انقلبت على انسان القرن الحادي والعشرين الذي اعمته الالة واوهمته بعالم مفتوح في مظهره ومغلق في واقعه، فافراد الاسرة لا يعرفون بعضهم البعض الا حينما يتعطل الانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي تحولت مواقع التقاطع الطائفي والحزبي والقبلي. فالزوج يطلق زوجته والعكس صحيح والطفل لا يتفاعل مع اسرته ويرفض كل قيمها، والشتائم هي اللغة الاسهل للتعبير عن اختلاف الرأي حينما يتعلق الامر بالسياسة.
لسنا من اعداء التقنية التي بدونها لم نستطع ان نكتب هذه الكلمات من خلال جهاز (IPAD)، لكن المشكلة في الانسان الذي يستخدم الاشياء الرائعة بالاتجاه السلبي، يحاول اعتقال الماضي واقتياده معه في كل مكان فيخسر الحاضر ويغفل عن المستقبل.
اكثر قراءة