من بين الذين يحرصون على تصويب ما نسب إليه خطأ وأدّى إلى مجانبة طروحاته، الفيلسوف الفرنسي كليمان روسيه، صاحب كتاب “الواقعي ومثيله”، فهو يعتقد أن الدارسين، على تعاقب الأجيال، لم يقفوا إلا على نسخ خاطئة من نيتشه. والسبب أن الحظ شاء أن تخونه أخته إليزابيت فورستر نيتشه، وزوجها الذي كان نازيا بارزا ساهم في بعث مخيمات للشباب الآري في باراغواي، حتى من قبل أن يمسك هتلر رسميا مقاليد السلطة.
ذلك أن الأخت وزوجها استوليا على مخطوطات نيتشه عندما فقدَ مداركه العقلية قبل أن ينهار تماما عام 1889، وسمحا بأن يُتخذ فيلسوفا رسميا لنظام هستيري مجرم، والحال أن نيتشه (1844-1900) لو عاش في زمن هتلر لكان من أوائل المنفيين إلى المعتقلات بسبب نقده اللاذع للذهنية الألمانية، وهجومه الدائم لمعادي السامية، فضلا عن شخصيته ونمط عيشه.
وليس للأخت من فضل سوى أنها ساهمت في التعريف به بعد أن كان ينشر كتبه على نفقته، ولا يبيع منها سنويا أكثر من عشرين نسخة. كما شاء له حظه المنكود أن يستحوذ عليه هيدغر ليقوّله ما لم يقله.
فقد راح في دروسه التي نشرت في جزأين، بعد تخلّيه عن النازية خلال الحرب العالمية الثانية، يحاول مَحْوَ ما علق بنيتشه من تهم، ولكنه كان في الواقع يكرّس تلك التهم، أولا بجعل نيتشه مجرد حلقة وصل بين هيغل وكانط وهو ذاته، ثانيا باستناده إلى كتب لم يؤلفها نيتشه مثل كتاب “إرادة القوة” الذي اختلقته أخته. فهيدغر، في رأي روسيه، لم يستند فقط إلى كتاب لا وجود له، وإنما أيضا إلى ما يزعم أن نيتشه “استشعره وفضّل إخفاءه أو التكتم عنه”، وما هو في الحقيقة سوى فلسفة هيدغر نفسه. دليل روسيه أن نيتشه لم يهتم إطلاقا بالأونطولوجيا أي علم الكائن، وأن الكائن لا يمثل مشكلة بالنسبة إليه، لأنه- شأنه شأن سبينوزا – ليس من النفاة، بل من الإثباتيين، فالحقيقي في نظره هو الاتصال بالواقعي دون لبس، في حين أن هيدغر من الفلاسفة الذين ينفون المحسوس، ويميّزون بين مستوى جوهري أونطولوجي للواقع ومستوى غير جوهري متعلق بمعرفة الأشياء (ontique) وبذلك جعل من نيتشه مجرد جبلّة خارجية (ectoplasme) سابقة لوجوده. أما المظهر الثالث لسوء الحظ الذي رافق نيتشه، فيتمثل في استحواذ فلاسفة اليسار الفرنسي على فكره مثل بيير كلوسّوفسكي وجاك دريدا وميشيل فوكو وجيل دولوز، إذ جعلوا منه مفكرا تقدميا ثوريا يهدم كل الأيديولوجيات بلا استثناء متجاهلين أن الاحتفاء بالفرح وقبول العالم بحلوه ومرّه هما من تيماته الكبرى.
أما الفيلسوف مارك دو لوناي، الذي ترجم نيتشه وبعضا من كبار الفلاسفة الألمان مثل هوسرل وأرندت وهابرماس ووضع كتابا عن تجربته بعنوان “ماذا تعني عملية الترجمة”، فقد تناول استعمال نيتشه للنيهيلية (العدمية)، هذا المفهوم، الذي أطلقه أول مرة الكاتب الروسي تورغنييف على مجموعة من الأنارشيست الإرهابيين في روسيا خلال القرن التاسع عشر لأنهم كانوا ينكرون كل قيمة أخلاقية أو ميتافيزيقية، تبناه نيتشه ليطبقه على كل من يدافع عن دين أو أخلاق أو فلسفة تحقّر الحياة. فما النيهيلية في رأيه سوى عرضة من أعراض حياة منهكة منحطة عاجزة عن تحمل الوجود، وقبوله كما هو، وأنها بدأت مع سقراط الذي لا تستطيع فلسفته أن تَثبُت إلا بما يسميه نيتشه في ازدراء “العالم الخلفي” للقيم المطلقة كالجمال والخير والحق، تلك القيم التي لا يبلغها إلا العاقل. وفي رأيه أنها قيم تستهين بالحياة الواقعية بدعوى عدم امتلاكها نقاءَ عالم الأفكار. وتواصلت مع أفلاطون الذي لم يأخذ مأخذ الجدّ حضور التراجيدي في الوضع البشري، خلافا لأعلام المسرح اليوناني القديم. ولكن هجومه الأشدّ كان على المدافعين عن مثالية الأخلاق اليهودية المسيحية لكونها تستهين بالقوة والغريزة والجسد والطبيعة. وفي رأيه أن دافع الأخلاق الدينية الأول هو البغضاء، أي كره الحياة. وقد بيّن منذ كتابه “جينالوجيا الأخلاق” ما تخفيه دروس الأخلاق والحقائق المطلقة، فدعاتها يهدرون وقتهم وجهدهم في شتم الحياة باسم عالم آخر غير مضمون، وكره وجود ما عادوا يملكون قوة لمحبته. وليس المقصود بالجينالوجيا البحث عن زمن سابق لولادة فكرة أو قيمة، بل التولد الأكثر عمقا الذي يصل ميتافزيقا معيّنة بدوافع وجدانية.
والأخلاق، في تصور نيتشه، هي عكس الإيثيقا كما يوضّح الفيلسوف رافاييل إنتوفن الصحافي بإذاعة فرنسا الثقافية وقناة أرتي الفرنسية الألمانية. فالإيثيقا كما تتبدى له عند نيتشه تهتم بالواقعي، وتعتمد على التفهم، وتنوب عن وحدة الجسد والذهن، وتتوجه إلى الأفراد الذين يشكلون مجموعة دون أن تلغي كون كل فرد منهم لا يقل ذكاء عن أيّ إنسان آخر، وتسعى لفحص الفعل أو الحدث قبل إصدار الحكم، في حين أن الأخلاق تهتم بالمعيار، وتتوسل بالأوامر والتحريم واللعن بالمفهوم الكنسي، وتصلح للتوجه إلى الجماعات التي تخضع للعصا والجزرة، وتخلط عمدا بين وصف الشيء وفرضه. فالإنسان الذي نصفه بأنه “على خلق” هو في الغالب منحرف يمنح نفسه مبادئ أقوى من طبعه ويضحي بالعالم وبالآخرين وفق إدراكه الممالئ لنفسه. ويرى أنتوفن أن مطرقة نيتشه ليست فقط مطرقة عدو للتقاليد (iconoclaste)، بل هي وسيلة فيلسوف اختار في معركته أن يفهم ويكشف عن الوجه الآخر لفضائلنا.
ولا يختلف عنهم ألكسندر لاكروا مدير تحرير المجلة وصاحب كتاب “كيف نحيا حين لا نؤمن بأيّ شيء؟” في فهمه لنقد نيتشه للأخلاق، وفي رأيه أن قوة هذا الفيلسوف تكمن في كونه لا يقنع بنقد تحديد ماهية الخير والشر كما تتداولها المسيحية، بل يقدم حجة ضدّ منظومة القيم، ويبين أن الأخلاق، كمجموعة تعاليم تحض على التقوى والاستقامة، ومعايير تستعمل للحكم على أفعال الناس، إنما هي وسيلة هيمنة. فالرهبان يعلّمون رعيّتهم أن تتحلى بالصبر والخشوع والزهد في الحياة الدنيا، وتعدها بسعادة خالدة حالما تغادر هذا العالم. وما تلك في نظر نيتشه إلا خدعة من “طائفة الرهبان” لخدمة مصالح الأقوياء، وكلام معسول غايته إبقاء الشعب في حالة خضوع واستسلام. ومن ثَمّة يدعو إلى نبذ فكرة القضاء والقدر (fatum) واعتماد ما سماه (amorfati)، أي أن نحب الحياة كما هي بحلوها ومرّها، مبتكرا نظرية العود الأبدي.
هذا العود الأبدي يفسره الفيلسوف الإيطالي باولو ديويرو مؤسس جمعية “هيبر نيتشه” ومؤلف كتاب “نشوء فلسفة الفكر الحر” بكونه تعبيرًا عن عالم لا تسيّره أيّ بنية ثابتة ولا أيّ غائية، وامتحانًا لانتخاب الأقوياء والضعاف عن طريق الـ”أمور فاتي” أي أن نحب ما يحدث كيفما يحدث. والسؤال هو معرفة من يملك القوة لحبّ الحياة إلى درجة قبول فرضية استعادة كل أطوارها، حتى المؤلمة والمشينة، بشكل يتكرر بلا نهاية، ويعود الإيجابي -كالسلبي- “في نفس ترتيبه ونفس تعاقبه”. هذه الفكرة، التي يُعد زرادشت خير مثال لها، هي أمر فظيع بالنسبة إلى الضعيف، لأنه لا يحب الحياة.
ولا يعني نيتشه بالقوة والضعف هنا التكوين الجسدي أو المكانة الاجتماعية، فالأقوياء لديه هم من تكون إرادة القوة عندهم فاعلة، أما الضعاف فأولئك الذين تنحصر تلك الإرادة لديهم في ردة الفعل، وإنما يقصد أن يتصرف المرء بطريقة تجعله يريد العود الأدبي لحياته كلها، لا ليمحو منها خيباتها وآلامها، بل ليحبّ وجوده بشكل يجعله يعيد خلق كل لحظة دون أن يكون مهتما بعالم خلفي أو غائية للكون والحياة، وحتى بالموت. هذه النظرية قد يكون من جرائرها تعزيز الأقوياء ودفع الضعاف إلى اليأس والاندحار، ولكن نيتشه يرى فيها أداة لتحسين النسل وتحويل الإنسان المتفوق إلى إنسان فوق العادة.
مفهوم الإنسان فوق العادي (Übermensch) بعبارة نيتشه، والذي اختلف العرب في ترجمته (الإنسان الأعلى، الإنسان الأسمى، الإنسان الأرقى) هو الذي ألقى بظلال كثيرة على فكره، حيث اتخذه الفاشيون خلال الحرب العالمية الأولى ثم النازيون في مطلع الثلاثينات مرجعية فكرية لأيديولوجيتهم. ويذكر الفيلسوف الألماني فولكر غرهارد في حديث للمجلة أن ألفريد بوملر، أبرز فلاسفة القومية الاشتراكية الألمانية، كان انتقى في كتابه “نيتشه، الفيلسوف والمفكر السياسي” مقولات من مؤلفات نيتشه، وتأوّلها على هواه ليجعل منه منظّرا للنازية، ويؤوّل “الإنسان الأرقى” بالفوهرر، أي الزعيم والقائد، الذي يجمع في شخصه بعبقرية نادرة كل ما هو ثقافي وفني وسياسي وعسكري.
ثم أردفه عام 1934 بكتاب ثان “نيتشه والقومية الاشتراكية” جعل فيه مفهوم “إرادة القوة” مطرقة أيديولوجية يستعملها الحاكم كما يشاء. وقال فيما قال “عندما نهتف ‘هايل هتلر!’، فنحن نحيّـي أيضا فريدريخ نيتشه”.
وهو ما كان منطلقا لاستحواذ النازيين على نيتشه، حتى أن كتاب “هكذا تحدث زرادشت” كان لا يفارق الجنود الألمان في الجبهة. ولو أن غرهارد يقرّ بأن لنيتشه أشياء تفتح الطريق لمثل تلك التأويلات، كمعاداته للديمقراطية، وأرستقراطيته، وإشادته في كتاب “جينالوجيا الأخلاق” بـ”الدابة الشقراء”، ذلك المفهوم الذي وقع تأويله بصورة “الآري” الجرماني الشمالي.
أما الفيلسوف الألماني كارل لوفيت، صاحب كتاب “فلسفة عَود الشيء نفسه أبدا”، فيرى أن نيتشه يريد أن يعطي الإنسانية هدفا يتجاوز الكائن-الإنسان الحالي ولا يكون داخل “العالم الخلفي” أي الآخرة، بل في نطاق سيرورة العالم. هذا الإنسان ينبغي أن يتسامى على ذاته، وهو معنى (Übermensch) الذي ينطلق منه نيتشه في دعوته إلى العودة ووضع قيم جديدة لإرادة القوة.
فهو يشخّص “العقم العميق للقرن التاسع عشر”، لأنه لم يصادف إنسانا أدرك مثالية جديدة، ما يجعل نظرية العود الأبدي في معناها التاريخي والأنتروبولوجي “مركز ثقل الإيثيقا الأسمى” من أجل إرادة فقدت أهدافها ضمن وجود صار سريع الزوال.
هي نظرية تريد تغيير تصوّرنا للإنسان من خلال إعادة تحديد مفهومه ومؤثراته، وزرادشت هو المثال، فهو النمط الأسمى للإنسان، إذ يحكم نفسه بنفسه، ويخضعها لنظام صارم.
وكان الفيلسوف المجري جورج لوكاتش قد ذهب أبعد من ذلك. فقد رأى أن معركة نيتشه ضد المسيحية نابعة من اعتباره إياها أصل الديمقراطية الحديثة، كاعتباره مساواةَ الناس أمام الرب التي جاءت بها المسيحية بداية انحطاط الديمقراطية.
ذلك أن الديمقراطية في نظر نيتشه ليست تدهور الدولة فحسب، وإنما هي أيضا تبلّد أوروبا وتضاؤل الإنسان الأوروبي. لأنها، بإلغائها التفاوت بين البشر، تقود البشرية كافة إلى الانحطاط، وتنتج بحسب عبارة زرادشت “الإنسان الأخير”، أي المقابل السلبي للمثال النيتشوي “الإنسان الأرقى”.
ويرى لوكاتش أن ألفريد بوملر لا يحيد عن المعنى الذي قصد إليه نيتشه بالإنسان الأخير، حين وصفه بـ”موظف المجتمع الديمقراطي الألماني”، حيث تزول الفوارق وتسود هيمنة الغوغاء في أعلى المجتمع وفي أسفله.
ولوكاتش يقرّ بأن نظرية نيتشه ليست مماثلة للأيديولوجيا الهتلرية الرسمية، نظرا لأن البربرية الإمبريالية لديه تبقى حلمَ مستقبل، فيما الأيديولوجيا الفاشية كانت نتيجة تفكك الإمبريالية المتطورة، مثلما يقر بوجود فوارق فكرية وجمالية وأخلاقية بين الطرفين، إلا أنه يعتقد أن ألفريد روزنبرغ كان محقا حينما عدّ نيتشه سلف الفاشية الألمانية، لكونه أورد في الفلسفة الألمانية تمجيد البربرية.
ويرى الإيطالي جورجو كولّي أن دعوة نيتشه إلى الإنسان الأرقى إنما هي دعوة إلى تجاوز الإنسان الحالي، الذي يتسم بالعدمية والانحطاط، دعوة عاجلة لا تقنع بانتظاره بل تعمل على قدومه وتسعى إليه، لأن الانتظار دون فعل معناه حلول الإنسان الأخير، أي ذلك الذي يرفض الإبداع، أي إنسان البغضاء الذي لا يفعل بل يكتفي برد الفعل.
وفي رأيه أن المقصود بالإنسان الأرقى ليس ذلك الفارس المغوار كما فهمه هتلر بل هو شبه النموذج الإنساني لعصر النهضة، الذي تلخص سماته مقولة “العقل السليم في الجسم السليم”، ولكن دونما ربّ، ولا دولة، ولا ملاذ بعالم آخر، ولا إيمان بأيّ معبود. لأن الإنسان الأرقى ينبغي أن يكون “معنى الأرض”، أي المؤكد الأكبر لكل شيء، ومتقمص القيم الديونيسية، ومعتنق الـ”أمور فاتي”، لكي يستعيد غرائز الغزو التي أنكرتها الأخلاق وكبتتها منذ القدم. فإذا ما تحرر من كل أشكال النيهيلية وكره الحياة، فسوف يجد القوة ليرغب بامتلاء وبشكل دائم للعود الأبدي لوجوده.
في كتابه “الإنسان الثائر”، يقول ألبير كامو “إذا استثنينا ماركس، فإن مغامرة نيتشه لا مثيل لها في تاريخ الفكر، ولن نخلُص أبدا من رفع المظلمة التي سُلّطت عليه. نعرف دون ريب عبر التاريخ فلسفات تمّت ترجمتها وخيانتها، ولكن لحدّ نيتشه والقومية الاشتراكية، لم يحصل قط أن قوبل فكر كامل ينيره نبل وتمزق روح استثنائية بمثل هذا الفيض من الكذب المنشور على مرأى العالم، وهذا الركام الفظيع من جثث المعتقلات”.
اكثر قراءة