akdak

المقالات

قسم الأدب و اللغة

نهاية‭ ‬جنس‭ ‬الرواية‬‬‬‬ التاريخية

254

عادل ضرغام

ولكن هذه المرحلة في تأسيس النوع الأدبي (الرواية التاريخية) سرعان ما تخلّت عن جمالياتها وخاصة في الأدب العربي تحت تأثير الثبات السّكوني بين الماضي والحاضر، وتحت تأثير محاولة رفد الآني بأشياء من الماضي. يتجلى ذلك واضحا في روايات نجيب محفوظ التاريخية، فبعد خلخلة التوجه القومي أو العظمة القومية في الروايات التاريخية للسابقين لمحفوظ، جاءت روايات نجيب محفوظ حاملة نوعا من الترابط بين الماضي والآني، مشيرة إلى أنّ الآني لا يختلف عن الماضي.

وأظن أن مرحلة الكتابة التاريخية لدى نجيب محفوظ ورفاقه وصلت بالنوع الأدبي (الرواية التاريخية) إلى مرحلة الاكتمال، وأن ما جاء من كتابات في إطار هذا النوع لا يندرج في إطار الكتابة الروائية التاريخية بمعناها المتعارف عليه. فلم يعد التاريخ بعد محفوظ يشكل العمود الفقري للرواية التاريخية، ولم يعد الماضي هو الموضوع في حيز الاهتمام، بل أصبح مناط الاهتمام متمثلا في تلك الحركة الدائبة بين الآني والماضي، ليس للبحث عن توجه قومي، وإنما لتشكيل هوية متلبسة بالثبات بالرغم من مرور العصور والأزمنة.

تأتي رواية “السائرون نياما” لسعد مكاوي بوصفها المعول الأول الذي يهدم سطوة النوع وجبروته، فهذه الرواية تبدأ بتفكيك الجنس الروائي التاريخي، فهي لا تهتم بالشخصيات القومية أو شخصيات القادة، وإنما كان اهتمامها الأساسي متمثلا في بناء (حرافيش) لهم قيمة، فهذه الرواية أرادت أن تعطي صوتا لأناس كثيرين مهمشين، لا يتاح لهم الكلام والتعبير عن أنفسهم.

لقد كانت رواية “السائرون نياما” مهادا مهما للروائيين الذين كتبوا في ذلك الإطار، منتبهين إلى كونها لا تقدم بنية تقليدية، وإنما تقدم بنية تقف على الأعراف بين التصور التقليدي لكتابة الرواية التاريخية، والرواية التاريخية كما تجلت لدى روائيين آخرين مثل الغيطاني وبنسالم حميش وواسيني الأعرج.

إن تحلل النوع الأدبي -الرواية التاريخية- وتلاشيه يظهر في رواية “الزيني بركات” للغيطاني، في كونه جعل الآني يرفد الماضي بأشياء لم تكن متاحة لحظتها، أو لم يكن الوعي بها حاضرا، ومن ثمة كانت هذه الرواية معروفة لدى الباحثين باسم رواية التخيل التاريخي، إشارة لما قامت به من زحزحة في سلم النوع الأدبي، وخروجا من مأزق الاختلاف مع المعهود والمقرر.

ويتجلى تلاشي جزئيات النوع الأدبي في روايات كثيرة قدمها بنسالم حميش بداية من “مجنون الحكم”، ومرورا بـ”العلامة”، وانتهاء بـ”هذا الأندلسي”، مع اختلاف درجة إتقانه من رواية إلى أخرى نظرا لتوفر المصادر أو عدم توفرها، فهو في كل هذه الروايات يريد أن يقدم لنا هوية عربية المشرق والمغرب في آن، هوية متلبسة بالثبات، وأن يقدم لنا بوصفنا عربا –حكاما ومحكومين- صورة ساكنة، ويحاول قراءة الماضي انطلاقا من الحاضر، فالحاضر بكل جزئياته يجعلنا نعيد النظر في هذا الماضي، لنقدم معرفة بالذات الساكنة، التي تشدها المغايرة أو اختلاف السياق إلى اجتراح أفق جديد.

وفي رواية واسيني الأعرج “البيت الأندلسي” سوف نقابل أكبر تحلل وتفكك لفكرة الرواية التاريخية المعهودة، فلم يعد مصطلح “التخيّل التاريخي” الذي قدمه عبدالله إبراهيم كافيا، لوصف ما قدمه واسيني الأعرج في تلك الرواية، فهو مهموم بتقديم سمات عامة للشخصية الجزائرية، تشكل في النهاية هوية خاصة، لم يتم الانتباه لجزئياتها المكونة لها، ففي هذه الرواية ندرك أن الهوية ليست ساكنة، فهي في معرض دائم لفقد واكتساب جزئيات جديدة، فمن خلال فكرة عمارة (البيت الأندلسي) التي تستند إلى ثقافات عديدة منها ما هو متأصل، ومنها ما هو مجلوب من ثقافات وديانات أخرى وأطر جديدة في البناء تتكون الهوية القائمة على فكرة البناء من أمشاج عديدة قد تكون متضادة على المستوى السطحي المباشر، ولكن فكرة الهدم التي تشد الرواية إلى لحظات آنية وأمراض مشدودة للحاضر، تشير إلى أن الجزائر فوتت فرصة تصالحها مع التاريخ وتشكيل هويتها.

إن ذوبان النوع الأدبي وتحلله وسيره في مجرى أكبر وأشمل هو الرواية، الذي يطوع كل الأجناس الأخرى، ويفكك كل التمدّدات النوعية طويلة الأمد، يجعلنا نعيد النظر في درسنا الأدبي والنقدي، فهل من المقبول أو المنطقي أن نسمي روايات واسيني الأعرج أو روايات بنسالم حميش رواية تاريخية، أم أنه آن الأوان لكي نعلن انتهاء جنس الرواية التاريخية. فلم تفلح كل المصطلحات التي قدمت في ذلك السياق لإسدال المغايرة في إنعاش النوع وتمدده واستمراره في إطاره المعهود والمقرر، بداية من رواية التخيل التاريخي، ومرورا بالرواية التاريخية الجديدة، وانتهاء برواية ما بعد الحداثة التاريخية.

إن مثل هذه الروايات ما كان لها أن تظهر أو تتجلى بوضوح دون ظهور نظريات أدبية لها تأثيرها، فالتشكيك في فكرة الأصل الثابت المتفق عليه في التفكيكية كان حاسما إذا ما طبق ذلك على التاريخ، فلم يعد للتاريخ المتفق عليه قداسة الأصل، وكأنه النسخة الوحيدة، وإنما أصبح في إطار اختلاف الخطاب عن الحادثة الواقعية هناك نسخ عديدة لأي حدث سواء أكان آنيا أم ماضيا. فالحادثة ثابتة، ولكن التعبير عن هذه الحادثة يولّد خطابات عديدة، وهذا التوجه فتح بابا للمخيلة، ولاستحداث شخصيات لم يكن لها وجود حقيقي، ولإكمال الفراغات التي صمت عنها المؤرخون.