akdak

المقالات

قسم الصحافة والإعلام والسينما

كلام‭ ‬في‭ ‬الصحافة

227

هيثم الزبيدي

ثمة موشح تردده وسائل الاعلام العربية. يقول القائمون على هذه المؤسسات، ومعهم جوق لا يقل عنهم حماسة من "المتضررين"، أن التقنيات الحديثة دمرت موارد هذه المؤسسات وصارت تهددها بالإفلاس. يفترض الموشح ان عصرا ذهبيا عاشته المؤسسات راح وولى.

هل هذا صحيح؟

بدءا، لا بد من الاشارة إلى ان التقنيات غيرت معنى الاعلام وآلياته مثلما غيرت اقتصادياته. لا توجد حلقة من الاعلام لم تتغير، من أول فكرة المراسل الصحفي او المصور إلى منصة عرض المنتج الاعلامي كصحيفة او راديو او تلفزيون. لا خلاف على هذا.

موشح الشكوى تستحق المؤسسات الغربية ان تردده من دون أن يلومها أحد. من حق صحيفة بريطانية تصدر في لندن وهي ترى انخفاض التوزيع من أكثر من مليون نسخة يوميا إلى مائة ألف، ان تتشكى. تقلص السوق إلى 10 بالمائة عما كانت عليه هو نكبة بكل معنى الكلمة. العصر الذهبي لتوزيع الصحف بالملايين كان في أوروبا وليس في العالم العربي.

الصحف الغربية كانت تصل إلى فئة كبيرة من المجتمع. الرأي العام الغربي هو نتاج ما تقوله الصحافة له. دورها العضوي ملموس ويستمر، ولم تؤثر التقنيات الحديثة على هذا الدور ولكنها اعادت رسم اقتصادياته. ما تقوله الصحف من اخبار وأراء وقراءات هو خلاصة السياسة والفكر والثقافة والنشاطات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد. تغريدات الصحف الآن على تويتر هي المرادف الالكتروني لبياع الصحف الذي كان يقف على ناصية الشارع يصيح: اقرأ آخر الأخبار.

لا محل في هذه المعادلة لمغرد موتور او معلق تافه. الوعي الذي خلقته وسائل الاعلام الغربية لدى الناس كفيل بتسخيف محاولات هؤلاء.

النقيض هو ما نراه في عالمنا العربي.

حجم الشكوى كبير. اعتادت وسائل الاعلام العربية، على الأقل الرسمية منها، على ان تكون الطفل المدلل للسياسيين. ومع الدلال يأتي المال. الاحتكار للموارد جعل وسائل الاعلام تتوجه الى القارئ الأهم: الزعيم. هو قارئ وحيد يحب نوعا من الأخبار، لكنه القارئ الذي ينبغي مراعاته. بقية الشعب، بمن فيه كبار المسؤولين، مجرد تفاصيل.

البكاءون يشتكون اليوم. ما عادوا بقادرين على اجتذاب اهتمام ذلك القارئ الوحيد، ولا هم يمتلكون القاعدة الجماهيرية التي تؤهلهم للبقاء. ارقام التوزيع القليلة بالأصل انخفضت إلى الحضيض، لم يلاحظ اغلبية الناس اختفاء ما كان غير حاضر بالأصل.

من نلوم؟ التقنيات الحديثة والوسائل الاجتماعية. ومع القليل من الاثارة يمكن اضافة "المؤامرة" على الاعلام العربي فتكتمل السبحة.

تردي المحتوى، وليس التقنيات الحديثة، هو ما اطاح بالاعلام العربي - او استبدله على وجه الدقة. الناس لا تتابع الاعلام العربي لأنه لا يقول ما يفيد او يقدم ما فيه معنى. لا علاقة لهذا بأن ما يكتب يجد طريقه للنشر على ورق او على شاشة كمبيوتر او صفحة ايباد. المحتوى الجيد سيجد طريقه للقارئ بالتأكيد، مثله مثل المحتوى المثير، ولكن ليس المحتوى الرديء بالتأكيد.

على الصحيفة العربية اليوم ان تحتفل بالتقنيات. كانت، على افضل الاحوال، تستخدم كفرشة تحت الطعام او للف ساندويتش الفول والفلافل. القراء كانوا أقل من النسخ القليلة التي تطبع. اليوم لديها الفرصة ان تقدم محتوى اصدق واكثر حيوية لقراء اكثر وجمهور أوسع. التقنيات التي اوصلت الفتنة والقال والقيل والتطرف الى كل هاتف، يمكن ان توصل الكلام الذكي والموزون والمؤثر. فقط على الصحيفة العربية ان تقلع عن عادة انتاج المحتوى الرديء. لا يمكن للمحتوى الرديء ان ينجح في الوصول الى عقول المتلقين فقط لأن معده يضع عليه مسمى "وطني"، في حين يجد المحتوى المختلف، حتى العنصري منه والطائفي، طريقه الى عقول الناس.

هذا يعيدنا إلى "المتضررين". انهم الصحافيون، من كتاب ومحررين ورؤساء تحرير. فلا يمكن ان يستقيم عالم الاعلام من دون صحفيين حقيقيين قادرين على انتاج محتوى ذكي وحقيقي ولماح. لا صحافة، ولا وعي بالتالي، من دون صحفيين حقيقيين.

المنصة الالكترونية إذن لا تلام. إنما يلام من يستخدمها، او يهملها. عندما يعجز الصحفي عن تقديم محتوى مسؤول ومؤثر، فأن القارئ سيتسلل، راغبا او بدافع الملل، إلى البدائل. وما اكثر البدائل هذه الأيام.

ما هز المسلّمات في عالمنا هو قلة الوعي. والوعي صنعة الصحافة والاعلام وقلته صنعة المهرجين او اصحاب الاجندات التخريبية الذي يتسابقون على منابر الوسائل الاجتماعية لانتزاع آخر قارئ لا يزال يقرأ صفحة أمامه من جريدة يفترشها ليأكل عشائه على ورقها.