جاءت قصّةُ صَلبِ المسيح ( عليه السلام ) والأسباب التي دعت إلى صَلبه في الأناجيل مختلفةً أشدّ الاختلاف ، فلا تكاد جزئية من الجزئيّات في أحدها تتحدّ مع الجزئيّة نفسها في إنجيل آخر .
ولمّا كانت هذه الأناجيل من تأليف أُناس يدّعي المسيحيّون لهم الإلهام ويعتقدون خلوّها من الخطأ ، كان ينبغي أنْ تكون كُتُبهم في مثل هذه الحادثة المهمّة ـ التي هي مناط النجاة ومدعاة الإيمان في نظرهم ـ متطابقةً متوافقةً ، بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلاً ؛ إذ النفس لا تطمئنّ إلى الأخذ بروايات جاءت بشأن قضيّةٍ واحدةٍ إذا اختلفت وتضارب بعضها مع البعض ، الأمر الذي يُنبئ عن عدم أمانة الراوي كلَّ الأمانة ، وتزول الثقة بروايتهِ ، فلم يجز التصديق بها في نظر الاعتبار .
وقد فصّل الكلام الأستاذ النجّار عن هذا الاختلاف الفاحش ، وأبانَ مواضعَ التناقضِ والتهافتِ بين الأناجيل بشأن قصّةِ الصَلبِ ، قال : لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألةٍ من المسائل كاختلافها في تفصيلِ مسألةِ صَلب المسيح وقتلهِ (1) .
قال : إنّ أدنى نظر يَهدي إلى أنّ عبارات هذه الأناجيل الأربعة متخالفة ، وشهادتها لا تصلح أنْ تكون مُستنداً يَثبت به أمرٌ له مِن الأهميّة مثل ما لمسألةِ صَلبِ المسيح التي يدّعيها المسيحيّون ويجعلونها أساسَ إيمانهم :
1 ـ إنّ ( متّى ) يقول : إنّ يسوع جاء مع تلاميذه إلى قرية ( جثيماني ) . ووافقه ( مرقس ) ، وخالفهما ( لوقا ) وقال : إلى جبل الزيتون . وقال ( يوحنّا ) : عِبر وادي ( قدرون ) .
2 ـ وقال ( متّى ) : ثُمّ أخذ معه ( بطرس ) وابني ( زبدى ) وابتدأ يَحزن ويَكتئب ، ووافقه
( مرقس ) ، وخالف ( لوقا ) في ذلك وذكر أنّه انفصل عنهم رمية حجرٍ وصار يُصلّي ، وأسقط ( يوحنا ) هذه العبارة .
3 ـ ذكر ( متّى ) أنّه قال لمن معه : ( نفسي حزينة حتّى الموت ، امكثوا هاهنا واسهروا معي ) ثُمّ راجعهم فوجدهم نياماً وهكذا للمرّة الثانية والثالثة فأنبأهم للمرّة الثالثة أنّ ( ابن الإنسان ) ـ يعني نفسه ـ سُلِّم إلى أيدي خُطاة ، ثُمّ قال : قوموا نتطلّق هوذا الذي يُسلمني قد اقترب . وعبارة ( مرقس ) توافق عبارة ( متّى ) في المعنى .
وأمّا ( لوقا ) فزاد : أنّ مَلَكاً من السماء نزل إلى المسيح يُقويه ، وأنّه كان يصلّي بأشدِّ لجَاجةٍ وصار عرقُهُ كقطراتِ دمٍ ، وأسقط مجيئَه إلى التلاميذ للمرّة الثالثة .
وأمّا ( يوحنا ) فقد أسقط ذلك كلّه ولم يَذكر شيئاً منه ، وهو أحد الثلاثة الذين انفرد بهم يسوع عن سائر التلاميذ ، وهو دليل على عدم حصول شيء من ذلك .
4 ـ قال ( متّى ) : وفيما هو يتكلّم إذا يهوذا أحد الإثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثير بسيوف وعصيٍّ من عند رؤساء الكَهَنة وشيوخهم وشيوخ الشعب ، والذي سلّمه أعطاهم علامةً قائلاً : هو هو امسكوه ، فلِلوقتِ تقدّمٌ إلى يسوع وقال : السلام عليك يا سيّدي وقبّله ، فقال يسوع : يا صاحب لماذا جئت ؟ حينئذٍ تَقدّموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه .
وافق ( مرقس ) ( متّى ) في المعنى ، وقال ( لوقا ) : إنّ المسيح قال : يا يهوذا أبِقُبلةٍ تُسلم ابن الإنسان ؟ ! بدل قوله ( يا صاحب لماذا جئت ) . وزاد : إنّ المسيح خرج إليهم وقال : مَن تطلبون ؟ قالوا : يسوع الناصري ، فقال لهم : أنا هو ، فرجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض . ثم أعاد سؤاله وأعادوا الجواب ، ثم قال : فإن كنتم تَطلبونَني فَدَعُوا هؤلاءِ يذهبون .
5 ـ ذكر ( متّى ) أنّهم قبضوا على يسوع ، ثُمّ أنّ بطرس استلّ سيفه وضرب عبدَ رئيس الكَهَنة فقطع أُذُنَه ، حينئذٍ تركه التلاميذ كلّهم وهربوا ، أمّا ( مرقس ) فلمْ يَذكر هربَ التلاميذ ، وأمّا ( لوقا ) فانفرد عن الجميع بأنّ المسيح لَمَسَ أُذُنَ العبد وأبرأها .
6 ـ يقول ( متّى ) : إنّ الذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى ( قيافا ) رئيس الكَهَنة .
وأمّا ( يوحنّا ) فقال : إنّهم أوثقوه وذهبوا إلى ( حنّان ) حما ( قيافا ) .
7 ـ ذكر ( متّى ) أنّ رؤساء الكَهَنة والشيوخ والجمع كلّه كانوا يَطلبون شهادةَ زُورٍ على يسوع فلمْ يجدوا ، ومع أنّه جاء شهودُ زُورٍ كثيرون لم يجدوا .
قال الأُستاذ النجّار : انظروا إلى هذا الكلام الغَلق المتناقض كلَّ التناقض ، إذا كانوا طلبوا شهود زُورٍ فلم يجدوا فيكف يقول بعد ذلك : ( ومع أنّه جاء شهود زُورٍ كثيرون لم يجدوا ) ؟!
8 ـ المفهوم صراحةً من عبارة ( متّى ) و ( مرقس ) أنّ المُحاكمة كانت ليلاً عَقِب القبض على المسيح ووصوله إلى دار رئيس الكَهَنة ، ولكن ( لوقا ) و ( يوحنّا ) جعلا المُحاكمة صباحاً .
9 ـ قال ( يوحنّا ) : وكانت واقفات عند صلب المسيح أمّه وأخت أمّه وكلّم المسيح مع أنّه ، وقد انفرد ( يوحنّا ) يذكر هذه العبارة . وأمّا ( لوقا ) فلم يذكر قرب أحد من معارفه إليه ولم يشر إليهم بكلمة ولم يَذكر ( مرقس ) أحداً من معارفه نظر حادثة الصَلب من قريب .
10 ـ ذكر ( متّى ) أنّ حجاب الهيكل قد انشقّ إلى نصفين اثنين من فوقٍ إلى أسفلٍ حين أسلم المسيحُ الروحَ ، والأرض تزلزلت والصخور تشقّقت والقبور تفتّحت ، وقام كثيرٌ من أجساد القدّيسين الأموات ، وأمّا ( مرقس ) فقد أهملَ هذا القول كلّه ولم يذكر منه شيئاً ، وقال ( لوقا ) : واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل ، ولم يَذكر زلزلةَ الأرض ولا غير ذلك ممّا ذكره (متّى) .
وعدّد الأستاذ النجّار أكثرَ من ثلاثينَ موضعاً خالفتْ فيها الأناجيل ، وعقّبها بقوله : أراني قد مَلَلتُ جدّاً من إيرادِ الأقوال المتخالفة بهذا الشأن ، وأظنّ أنّ القارئ قد سَئِم كما سَئِمتُ ، ولو ذهبتُ في هذا الشوط اُعدّد هذا التضادّ بين الأناجيل لأضعت وقتاً ثميناً .
قال : وبعد ذلك فهل يظنّ ظانّ أنّ مُحمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) هو الذي ابتدع مسألة نفي صَلب المسيح ؟ (2)
وإذا نظرنا إلى مسألة صَلب المسيح وقتلَه لم نجدْها عند المسيحيّين إجماعيّة ، بل وُجِد مِن طوائف المسيحييّن مَن ينفي الصَلب والقتل . منهم : ( الساطرينوسيون ) و( الكاربو كراتيون ) و( المركيونيّون ) و( البارديسيانيون ) و( التاتيانسيون ) و( البارسكاليونون ) و( البوليسيون )... وهؤلاءِ مع كثيرينَ غيرهم لم يُسلِّموا بوجهٍ من الوجوه : أنّ المسيح سُمِّر فعلاً ومات على الصَليب .
وما ذكرنا هنا مقرّر في تأريخهم الذي يُدرَّس في مدارس اللاهوت الإنجيليّة باسم ( موسى هيم ) . وهناك شهادات من علماء النصرانيّة تفيد المطّلع بصيرةً :
1 ـ قال الميسو ( ارادوار سيوس ) الشهير ـ أحد أعضاء ( الانسيتودي فرانسي ) في باريس والمشهور بمعارضة المسلمين ـ في كتابه ( عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانيّة ، ص49 ) : إنّ القرآن ينفي قتلَ عيسى وصَلبَه ، ويقول بأنّه شبّهه على غيره فغَلطَ اليهودُ فيه وظنّوا أنّهم قتلوه ، قال : وما قاله القرآن موجودٌ عند طوائفٍ من المسيحيّين ، منهم ( الباسيليديون ) كانوا يعتقدون أنّ عيسى وهو ذاهب لمحلّ الصلب ألقى الشبه على
( سيمون ) السيرناي تماماً ثم أخفى نفسَه ، ومنهم : ( السرنتيون ) فإنّهم قرّروا أنّ أحدَ الحواريّين صُلِب بدلَ المسيح ، وقد عُثِر على فصلٍ من كلام الحواريّين ، وإذا كلامه كلام ( الباسيليديّين ) قد صرّح إنجيل القدّيس ( برنابا ) باسم الذي صُلِب بدلَ عيسى أنّه ( يهوذا ) .
2 ـ وقال ( الهرارنست دي بونس ) الألماني في كتابهِ ( الإسلام أي النصرانيّة الحقّة ) في ص143 ما معناه : إنّ جميعَ ما يختصّ بمسائل الصَلب والفِداء هو من مبتكرات ومخترعات ( بولس ومَن شابَهَه مِن الذين لمْ يروا المسيح ، وليس من أُصول النصرانيّة الأصيلة .
3 ـ قال ( ملمن ) في الجزء الأَوّل من كتابهِ ( تأريخ الديانة النصرانيّة ) : إنّ تنفيذ الحكم كان في وقتِ الغَلَس وإسدالِ ثوب الظَلام ، فسَيَنتُج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القُدُس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم ، كما اعتقد بعض الطوائف المسيحيّة ، وصدّقهم القرآن (3) .
* * *
وللشيخ مُحمّد عَبدَه أيضاً بحثٌ مذيّل حولَ مسألةِ الصَلب والفِداء ، وأنّها عقيدة وثنيّة ، ورِثَتها المسيحيّة من الهنود . ويتعرّض لشبهاتٍ أثارها المسيحيّون بشأنِ إنكار الصَلب . وكانت الشبهة الثانيّة : أنّ قصةَ الصَلب متواترةٌ متّفقٌ عليها بين طوائفِ النصارى .
لكنّها شبهةٌ إنّما تَعبِرُ على مَن يجهل تأريخ المسيحيّة ، أمّا مَن يطّلع على تأريخهم فالإجابة على هذه الشُبهة يسيرة عليه ؛ حيث هناك فِرَقٌ منهم أنكروا الصَلب ، كفرقةِ ( السيرنشيّين ) و( التاتيانوسيين ّ) أتباع ( تاتيانوس ) تلميذ ( يوستينوس ) الشهير ، وقال ( فوتيوس ) أنّه قرأ كتاباً يُسمّى ( رحلة الرُسُل ) فيه أخبار ( بطرس ) و( يوحنّا ) و( اندراوس ) و( توما ) و( بولس ) . وممّا قَرأَهُ فيه : ( أنّ المسيح لم يُصلب ، ولكن صُلِب غيرُه ، وقد ضِحك بذلك مِن صالبيه ) . وأنّ مجامع المسيحيّين حينذاك قد حرَّمَتْ قراءةَ أمثال هذه الكُتُب التي تخالف الأناجيلَ الأربعة والرسائلَ التي اعتَمَدتْها الكنيسة ، فجعلوا يُحرِقون تلك الكُتُب ويُتلِفونها... وقد سَلَمت بعضُ تلك الكُتُب كإنجيل برنابا ، وهو يُنكِر الصَلب (4) .
وسنذكر أنّ جماعةً اعتقدوا تَظاهرَ المسيح بالموت ، في تواطؤ مع أحد تلاميذه يوسف وساعده الوالي بيلاطس بتحريضٍ من امرأته ، حذّرته أنْ يُمسَّ الرجل البارّ بسوءٍ (5) .
* * *
إذن ، ليس الأمرُ كما زَعَمَه النصارى أنّ المسيح قد صُلِب وقُتِل يقيناً ، بل الأمرُ كان مشكوكاً لديهم ، مُنذ بداية الأمر وإنْ اتفقوا بعد ذلك على عقيدة الصَلب والفِداء ، وهي بدعة ورِثوها من عبدةِ الأوثان .
ومِن ثَمّ ، فالحقّ ما صرّح به القرآن الكريم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42] ، قال تعالى : {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء : 157، 158] .
__________________________
1- راجع : قصص الأنبياء للنجّار ، ص 433 ـ 452 .
2- بل لم يكن له غاية من هذا النفي ، ولعلّ إثباته أنفع له ؛ حيث اليهود الّذين واجههم كانوا يَقتلون الأنبياء بغير حقٍّ . فكانت حادثةُ صَلب المسيح على أيديهم أدلَّ شيء على هذا المدّعى ، الأمر الذي يدلّ على أنّ مُحمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) كان على وضعِ بيان الحقيقة لا غير .
3- راجع : الفارق بين الخالق والمخلوق ، ص 281 ـ 282 ، وقصص الأنبياء للنجّار ، ص447 ـ 449 .
4- تفسير المنار ، ج6 ، ص34 ـ 35 .
5- قصص الأنبياء للنجّار ، ص429 .
اكثر قراءة